[أصالة الاشتغال: دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين]
[في جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين]
[محاولات أربع لعدم انحلال العلم الاجمالي]
ثمّ إنّه ذكر عدّة محاولات لعدم انحلال العلم الاجمالي:
المحاولة الثانية: وهي ما عن الميرزا النائيني (رحمه الله). وحاصلها: «إنّه لا إشكال في أنّ العقل يستقلّ بعدم كفاية الامتثال الاجمالي للتكليف القطعي، ضرورة أنّ الامتثال الاحتمالي إنّما يقتضيه التكليف الاحتمالي.
وأمّا التكليف القطعي، فهو يقتضي الامتثال القطعي، لأنّ العلم باشتغال الذمّة يستدعي العلم بالفراغ، ولا يكفي احتمال الفراغ.
وعليه، ففيما نحن فيه لا يجوز الاقتصار على الأقلّ عقلاً، لأنّه يشكّ في الامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين، فلا يحصل العلم بالامتثال إلاّ بعد ضمّ الخصوصية الزائدة المشكوكة». (انتهى حاصل كلامه).
ثمّ إنّه وجّه عدم الانحلال ببيان آخر: قال: «والعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ المردد بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء هو عين العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين الأقلّ والأكثر، ومثل هذا العلم التفصيلي لا يعقل أن يوجب الانحلال، لأنّه يلزم أن يكون العلم الاجمالي موجباً لانحلال نفسه». (انتهى كلامه).
أقول: أمّا الوجه الأوّل لعدم الانحلال، فإنّه مع قطع النظر عمّا ذكره من أنّ الامتثال الاحتمالي إنّما يكون في طول الامتثال اليقيني.
وعليه، فلا مجال للاحتياط مع التمكّن من العلم بالواقع تفصيلاً، حيث ناقشنا سابقاً هذا الكلام، وقلنا إنّه لم يكتب له التوفيق.
وبالجملة، فمع قطع النظر عن ذلك. نقول: إنّ كلامه إنّما يتمّ لو كان لحدّ الكثرة دخل في موضوع التكليف، فلا يجوز حينئذٍ الاقتصار على الأقلّ، لأنّه يشكّ في الخروج عن العهدة. وأمّا بناءً على ما ذكرناه من أنّ الواجب مستقلاً بعينه هو الواجب ضمناً عند وجوب الأكثر، فلا إشكال حينئذٍ في الامتثال بالاتيان بالأقلّ والخروج به عن عهدة التكليف المعلوم في البين، إذ الأكثر على فرض وجوبه غير واصل إلينا. وبالتالي، هو غير منجّز، فلا عقاب على تركه، وإلاّ كان قبيحاً بحكم العقل.
وأمّا الوجه الثاني الذي ذكره لعدم الانحلال، فهو بعينه ما حكي عن صاحب الحاشية، ولا فرق بينهما، فلماذا أشكل عليه سابقاً. وعليه، فلا حاجة لإعادة ما ذكرناه سابقاً.
المحاولة الثالثة: وهي لصاحب الكفاية، وقد استند في وجه عدم الانحلال إلى أمرين:
أحدهما: لزوم الخلف المحال. وتوضيحه: إنّ وجوب الأقلّ فعلاً على كلّ حال، إمّا لنفسه أو لغيره ممّا يتوقف على تنجّز التكليف المعلوم بالإجمال مطلقاً ولو كان متعلّقاً بالأكثر، إذ لو كان متعلّقاً بالأكثر ولم يكن منجّزاً لم يترشّح الوجوب الغيري إلى الأقلّ، فلو كان وجوب الأقلّ فعلاً على كلّ حال مستلزماً لعدم تنجّز التكليف المعلوم بالإجمال -إلاّ إذا كان متعلّقاً بالأقلّ دون الأكثر، كما هو المدّعى- كان ذلك خلفاً.
وبعبارة أخرى: إنّ الانحلال الموجب لعدم تنجّز وجوب الأكثر موقوف على العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ فعلاً.
وهذا العلم يتوقّف على تنجّز التكليف على كلّ حال، سواء كان الوجوب متعلّقاً بالأقلّ أم الأكثر، وقد فرض عدم تنجّز وجوب الأكثر بالانحلال لجريان البراءة فيه، فدعوى تنجّز وجوب الأقلّ على كلّ تقدير تنافي عدم تنجّز وجوب الأكثر.
وعليه، فالذي يكون دخيلاً في الانحلال هو تنجّز الوجوب المتعلّق بالأقلّ فقط، وهو خلاف ما فرضناه من دخل تنجّز وجوبه مطلقاً، ولو كان الواجب هو الأكثر.
ثانيهما: لزوم التناقض المحال: أي يلزم من وجود الانحلال عدمه. وتوضيحه: إنّ انحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي منوط بالعلم بوجوب الأقل تفصيلاً. وهذا العلم التفصيلي موقوف على تنجيز وجوب الأقلّ مطلقاً نفسياً كان أو غيرياً، وتنجّز وجوبه الغيري يقتضي تنجّز وجوب الأكثر نفسياً حتّى يترشّح منه على الأقلّ، ويصير واجباً غيرياً، لما مرّ من تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في أصل الوجوب والتنجّز، مع أنّ الانحلال يقتضي عدم تنجّز التكليف بالأكثر نفسياً، المستلزم لعدم تنجّز وجوب الأقلّ غيرياً، فإذا لم يكن وجوب الأكثر منجّزاً لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فلا يتنجّز وجوب الأقلّ.
وعليه، فوجوب الأقلّ ثابت على كلّ حال، وغير ثابت كذلك، وليس هذا إلا التناقض.
والخلاصة: إنّ ملاك الاستحالة في الوجهين المتقدّمين واحد، وهو أنّ الانحلال يتوقّف على تنجّز التكليف على كلّ تقدير، أي سواء تعلّق بالأقلّ أو بالأكثر.
ويرد عليه:
أوّلاً: أنّ إشكاله يتمّ بناءً على وجود المقتضي لاتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري، مع أنّه لا يوجد مقتضٍ لاتصافها بالوجوب الغيري، كما عرفت، بل وجوب الأقلّ لا يكون إلاّ نفسياً على كلّ تقدير، سواء كان متعلّق التكليف هو الأقلّ أو الأكثر، فإنّ الأجزاء إنّما تجب بعين وجوب الكلّ.
ثانياً: لو سلّمنا بوجود المقتضي لاتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري، إلا أنّ الانحلال لا يتوقّف على تنجّز التكليف على تقديري تعلّقه بالأقلّ وتعلّقه بالأكثر، بل الانحلال وتنجّز التكليف بالنسبة إلى الأكثر متنافيان لا يجتمعان، بل الانحلال مبنيّ على العلم بوجوب ذات الأقلّ على كلّ تقدير، أي على تقدير وجوب الأقلّ في الواقع نفسياً أو غيريّاً. وبالجملة، فإنّ وجوب المقدمة إنّما يتبع وجوب ذي المقدمة واقعاً وإن لم يبلغ مرتبة التنجّز. وكذا تنجّز التكليف بالأقلّ لا يتوقّف على تنجّز التكليف بالأكثر، بل يتوقّف على العلم بوجوب نفسه، فإنّ تنجّز كلّ تكليف إنّما يتوقف على العلم بذلك التكليف، ولا دخل لتنجّز تكليف آخر في ذلك.
والخلاصة: إنّ منشأ هذه الشبهة، هو أخذ التنجّز على كلّ تقدير شرطاً للانحلال، مع أنّ الأمر ليس كذلك.
ومن هنا، تعلم أنّ هذه المحاولة الثالثة لصاحب الكفاية لم يكتب لها التوفيق.
|