• الموقع : موقع سماحة اية الله الشيخ حسن الرميتي .
        • القسم الرئيسي : بحث الاصول .
              • القسم الفرعي : الاصول العملية / بحث الاصول .
                    • الموضوع : الدرس 148 _ الإستصحاب 9 .

الدرس 148 _ الإستصحاب 9

وأما إذا كان الإشكال من جهة عدم تطرّق الشكّ فيها من جهة الشبهة الحكميّة أو الموضوعية -كما يظهر من بعض كلام الشيخ الأعظم الأنصاري (رحمه الله)- من أنّ الأحكام العقليّة كلّها من حيث المناط والموضوع مبيَّنة ومفصَّلة، فلا يكاد يتطرّق الإهمال والإجمال فيها، فإنّ العقل لا يستقلّ بقبح شيءٍ أو حسنه إلا بعد الإلتفات إلى الموضوع بجميع ما يعتبر فيه من القيود والخصوصيّات، فكل قيدٍ اعتبره العقل في حكمه فلا بدّ وأن يكون له دخلٌ في الموضوع، ومعه لا يمكن الشكّ في بقاء الحكم العقلي بعد انتفاء شيءٍ من هذه القيود.
وعليه: فإذا انتفى أحد هذه القيود، فينتفي الحكم العقلي يقيناً، والمفروض أن الحكم الشرعي في المقام مستفادٌ من الحكم العقلي بقاعدة الملازمة «أي كل ما حكم به العقل حكم به الشرع» ولا عكس، وعليه فبانتفاء الحكم العقلي ينتفي الحكم الشرعي، فلا يبقى لنا شكّ في بقاء الحكم الشرعي حتى يُرجع إلى الاستصحاب، بل هو مقطوع العدم.
وبعبارة أخرى لمّا كان مناط الحكم الشرعي وموضوعه هو المناط والموضوع في الحكم العقلي، فلا يُتصور فيه الشكّ أيضاً حتى يجري فيه الاستصحاب.

فيَرِدُ عليه:
أولاً: أنّه لا دليل على أنّ كلّ قيد اعتبره العقل في موضوع حكمه لا بدّ وأن يكون له دخلٌ في مناط الحكم واقعاً، إذْ من المحتمل جداً أنّ العقل لا يدرك دخل القيد في مناط الحسن والقبح واقعاً، وإنما اعتبره في الموضوع لأجل أنّ الموضوع المشتَمل على ذلك القيد هو القدر المتيقن في قيام مناط الحسن أو القبح فيه، مع احتمال أن لا يكون له دخلٌ في المناط، وهذا الاحتمال واقعيّ ليس من باب أنياب الأغوال. مثلا يمكن أن يكون حكم العقل بقبح الكذب الضارّ الذي لا يترتب عليه نفعٌ للكاذب ولا لغيره، إنما هو لأجل أن الكذب المشتمل على هذه القيود هو القدر المتيَقن في قيام مناط القبح فيه، مع أنه يحتمل أن لا يكون لقيد عدم ترتب النفع دخلٌ في القبح، بل يكفي في القبح مجرد ترتب الضرر عليه وإن لزم منه حصول النفع للكاذب أو لغيره، والحكم الشرعي المستكشَف من حكم العقل إنما يدور مدار ما يقوم به مناط القبح واقعا.
وعليه: فيمكن بقاء الحكم الشرعي مع انتفاء بعض القيودات التي اعتبرها العقل في الموضوع من باب القدر المتيقن، لاحتمال أن لا يكون لذلك القيد دخلٌ فيما يقوم به الملاك واقعا، وفي هذه الحالة وإن ارتفع الحكم العقلي فيه بالقبح، بل نجزم بارتفاعه فعلاً، إلا أنه ليس المقصود من الاستصحاب هو استصحاب الحكم العقلي كي ينافيه الجزم المزبور، بل المقصود فيه استصحاب الحكم الشرعي المستكشَف منه بقاعدة الملازمة «أي كل ما حكم به العقل حكم به الشرع» والجزم بانتفاء الحكم العقلي لا يضرّ بجريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشَف منه، لأنّ بقاء الحكم الشرعي واقعاً تابعٌ لبقاء مناط القبح واقعاً، وليس تابعاً لبقاء نفس الحكم العقلي، والملازمة بينهما إنما تكون في مقام الكشف فقط، لا في الواقع بحيث يدور الحكم الشرعي حدوثاً وبقاءً مدار الحكم العقلي بالحسن والقبح.
وعليه: فإذا كان الشكّ في بقاء المناط العقلي مستتبعاً بالشكّ في بقاء الحكم الشرعي واقعاً فلا محالة يجري فيه الاستصحاب كما يجري في الحكم الشرعي المستفاد من الكتاب المجيد والسنّة النبوية الشريفة.

وثانياً: لو سلّمنا أنّ كلّ قيدٍ اعتبره العقل في موضوع حكمه له دخل في مناط الحكم بنظر العقل، ويكون به قوام الموضوع، إلا أنه يمكن أن يكون ملاك الحكم الشرعي قائما بالأعم من الواجد لبعض القيودات والفاقد لها، فإذا حكم العقل بقبح الكذب الضارّ الغير النافع، فليس له مفهوم حتى ينفي ملاك الحكم الشرعي عمّا عدا ما استقل به، فيمكن أن يكون لقيد الضرر دخلٌ في مناط حكم العقل بقبح الكذب من دون أن يكون له دخلٌ في مناط الحكم الشرعي بحرمة الكذب، إذ من الممكن أن يكون موضوع الحكم الشرعي المستكشَف من الحكم العقلي أوسع من موضوع الحكم العقلي ولا غرابة في ذلك، بل يحتمل قيام مناطٍ آخر مقام المناط الأول عند انتفائه الموجب لبقاء شخص الحكم الأول، مع عدم اقتضاء تغيير المناط تغييراً لشخص الحكم، وعليه فيجري الاستصحاب في الحكم الشرعي الشخصي لا في الملاك حتى يكون من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلّي.

وخلاصة البحث: أنّ كلّ قيدٍ من القيود المأخوذة في موضوع الحكم العقلي إذا انتفى، ينتفي بسببه الحكم العقلي بلا إشكال، إلا أنه لا يلزم من انتفائه انتفاء ملاكه ومناطه، إذْ يحتمل أن يكون الشيء مما له دخلٌ في حصول القطع بوجود الملاك ولا يكون له دخلٌ في وجود الملاك واقعاً بحيث لا يحرِز العقل وجود ملاك حكمه إلا في ظرف القيد وإن لم يكن لوجود القيد دخلٌ واقعاً في نفس وجود الملاك، ولازم ذلك أنْ لو انتفى قبل القيد المذكور ينتفي حكم العقل جزماً ويكون ملاكه محتمل البقاء، واحتمال بقاء الملاك معناه احتمال بقاء الحكم الشرعي لأنه تابعٌ له، فيَصْدق على الشكّ في الحكم حينئذٍ أنه شكٌ في بقائه، فيشمله دليل الاستصحاب، مضافاً إلى أنه لو سلّم أنّ ارتفاع القيد موجبٌ لارتفاع الملاك واقعاً، لكن لا مانع من احتمال وجود ملاكٍ آخر للحكم الشرعي لم يطّلع عليه العقل فيحتمل لأجله بقاء الحكم، غاية الأمر أنّ الحكم الشرعي بحدوثه يستند إلى الجامع بين الملاكين، وببقائه يستند إلى الملاك الآخر الذي لم يرتفع بارتفاع القيد، وهذا لا محذور فيه، والله العالم. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ        


  • المصدر : http://www.al-roumayte.com/subject.php?id=1453
  • تاريخ إضافة الموضوع : الثلاثاء: 26-12-2017
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 04 / 30