ثم أن ما ذكرناه، وإن كان هو مقتضى الصناعة العلميّة إلّا أن الإفتاء بجواز تقليد الصبيٍّ هو جرأة كبيرة لا سيّما انه قد يكون هناك تسالم على عدم جواز تقليده، فالأحوط إن لم يكن أقوى هو اعتبار البلوغ، والله العالم.
الأمر الثاني: العقل.
المعروف بين الأعلام: انه يعتبر في مرجع التقليد العقل بل قيل إنه ممّا أجمع عليه الخلف والسلف.
أقول: يقع الكلام في مقامين: المقام الأوّل: في الجنون المطبق. المقام الثاني: في الجنون الإدواري.
أما المقام الأوّل: فهناك تسالم بين الأعلام على عدم جواز تقليد المجنون المطبق ابتداءً بل هو من الواضحات، ولا يصدق على المجنون المطبق ابتداءً عنوان "الفقيه" و"العالم" المأخوذ في موضوع الأدلّة اللفظية لجواز التقليد. وأيضاً، فإن سيرة العقلاء الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم موردها العالم والعاقل، وهذا ليس عالماً ولا عاقلاً. هذا كلّه بالنسبة للمجنون الإطباقي بحسب الابتداء.
وهل يجوز البقاء على تقليد المجنون المطبق، فيما لو قلّده حال كونه عاقلاً ثم طرأ عليه الجنون بعد ذلك:
قد يقال: بجواز ذلك، لأن سيرة العقلاء قائمة على العمل بفتوى المجتهد التي صدرت منه قبل طروء الجنون عليه، كما أن العقلاء يعملون بقول الأطباء والمهندسين، إذا صدر منهم شيء قبل عروض الجنون عليهم. وأيضاً، فالإطلاقات اللفظية شاملة لحالتي بقاء العقل وعدمه. ومقتضاها اعتبار فتواه بقاءً بعد عروض الجنون عليه.
ولكن الإنصاف: هو اعتبار العقل حدوثاً وبقاءً، فإذا اُنتفي العقل زالت أهليته للتقليد، وذلك للتسالم بينهم، مع ما سنذكره إن شاء الله تعالى في نهاية المطاف.
هذا كلّه بالنسبة للمجنون المطبق.
اما المقام الثاني: في الجنون الإدواري.
فقد يقال إنه لا دليل على المنع عن العمل بفتواه في حال إفاقته، وذلك لبناء العقلاء وللإطلاقات المتقدّمة، حيث لم يقيّد شيء منها بذلك.
قال السيد محسن الحكيم في المستمسك: «وحكي القول به عن بعض متأخري المتأخرين كصاحبَي المفاتيح والإشارات ولا بأس به ان لم ينعقد الإجماع على خلافه لعموم الأدلّة أيضاً». (انتهى كلامه).
وقال صاحب الفصول: «وأما الجنون الإدواري والسكر والإغماء فلا يقدح في جواز التقليد مطلقاً على إشكال في الأوّل». (انتهى كلامه). ومقصوده من عدم قدح السكر في جواز التقليد، هو ما إذا استعمل جهلاً بالموضوع أو نسياناً أو اضطرارا أو إكراهاً، ونحو ذلك من الأعذار.
والإنصاف: هو اعتبار العقل مطلقاً، وأن الجنون مانع من جواز التقليد، سواء الإطباقي منه أو الإدواري، وسواء كان ذلك حدوثاً أم بقاءً، لأن مرجع التقليد عند المسلمين له مرتبة عالية جدّاً، ومكانة المرجعية عند المسلمين هي بعد الولاية، ولها منزلة عظيمة. فكيف يتصدّى لها من هو ساقط الاحترام عند العقلاء لا سيّما المجنون الذي يفعل الأفعال القبيحة عندهم؟ وهل يرضى الشارع بذلك؟
والخلاصة: ان الشارع المقدّس لا يرضى بزعامة وقيادة من لا عقل له ولو بقاءً أو إدوارياً، وهذه سيرة المتشرعة تشهد بذلك، والله العالم.
الأمر الثالث، الإيمان.
والمراد به: كون الشخص شيعيّاً إمامياً إثني عشرياً.
والمعروف بين الأعلام: اشتراط الإيمان في مرجع التقليد بل إدّعى جماعة من الأعلام الإجماع على ذلك، منهم المحقق القمّي، حيث قال: «والظاهر ان إشتراط الإيمان إجماعي...الخ». (انتهى كلامه).
وقد أشكل على ذلك، بأن الإجماع المحصل غير حاصل، لاحتمال استناد المجمعين إلى بعض الوجوه الآتية، فلا يكون إجماعاً تعبديّاً كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السّلام). وأما الإجماع المنقول بخبر الواحد فهو غير حجّة، كما عرفت في أكثر من مناسبة.
ولكن الإنصاف: أن هناك تسالماً بين السلف الصالح والخلف على اشتراط الإيمان في مرجع التقليد، بحيث أصبح هذا الشرط في أيامنا من البديهيات. وهذا هو العمدّة في المقام، وإلّا فما ذكر من الأدلّة على الاشتراط لا يصمد أمام التحقيق:
|