الأمر الرابع: العدالة.
المعروف بين الأعلام: أنها معتبرة في مرجع التقليد، وقد إدّعى جماعة من الأعلام الإجماع على ذلك.
وقال المحقق القمّي: «وأمّا العدالة فظاهرهم الوفاق على اعتباره...الخ». (انتهى كلامه).
كما أنها شرط عند جماعة من أهل السنّة. قال الغزالي في شرطية العدالة في المجتهد: «أن يكون عدلاً مجتنباً للمعاصي القادحة في العدالة وهذا يشترط لجواز الاعتماد على فتواه فمن ليس عدلاً فلا تقبل فتواه أمّا هو في نفسه فلا فكأن العدالة شرط القبول للفتوى لا شرط صحّة الاجتهاد...الخ». (انتهى كلامه).
هذا، وبالمقابل، فقد حكى السيد محسن الحكيم (رحمه الله) في المستمسك عن بعض الأعلام: «جواز تقليد الفاسق المأمون». (انتهى كلامه).
أقول: قد استدل لاعتبار العدالة بعدّة أدلة:
منها: الإجماع المدّعى. وفيه: ما ذكرناه من أن الإجماع المحصّل غير حاصل، لاحتمال استناد المجمعين إلى بعض ما سنذكره من الأدلة، فلا يكون إجماعاً تعبديّاً كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السّلام). وأمّا الإجماع المنقول بخبر الواحد، فقد عرفت أنه غير حجّة وأنه يصلح للتأييد فقط.
ومنها: آية النبأ. وقد تقدّمت عند الاستدلال بها على حجّية خبر الواحد. وفيه: مع قطع النظر على أنها واردة في حجّية الخبر لا حجّية الفتوى، ومع قطع النظر عمّا ذكرناه هناك من المناقشة في دلالتها على المطلوب. فإن غاية ما يستفاد منها هو قبول خبر العادل وعدم قبول خبر الفاسق. ومقتضى التأمل فيها يفضي إلى أن المناط هو الوثاقة في المخبر، فإن الفاسق بطبعه لا يتحرز عن الكذب فالاعتماد على خبره لا يؤمن معه من الوقوع في مخالفة الواقع، بخلاف خبر الثقة. أضف إلى ذلك، أنه لو سلّمنا أنها دالّة على اعتبار خبر العادل بالخصوص إلّا أن مقتضى الجمع بينها وبين ما دلّ على كفاية الوثاقة في خبر الواحد هو حمل التبيّن فيها على ذلك.
ومن جملة الأدلّة: رواية الاحتجاج المتقدمة، والمروية عن التفسير المنسوب إلى الإمام أبي محمد الحسن العسكري (عليه السّلام): «وكذلك عوامنا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة والتكالب على الدنيا وحرامها فمن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمهم الله بالتقليد لفسقة علمائهم فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوم أن يقلّدوه وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا كلهم، فإن من ركب من القبائح والفواحش مراكب علماء العامة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئاً».[1] ودلالتها على اشتراط العدالة واضحة وتامة.
وقد أشكل على الاستدلال بها من جهتين:
الجهة الأولى: من جهة السند، لأن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السّلام) لم يثبت بطريق معتبر، لأن في الطريق إلى التفسير جملة من المجاهيل، مثل: محمد بن القاسم الإسترآبادي، ويوسف بن محمد بن زياد، وعليّ بن محمد بن سيّار. وهذا التفسير هو الذي ذكره الشيخ الصدوق بإسناده عن محمد بن القاسم الإسترآبادي.
الجهة الثانية: وهي الدلالة فإن الظاهر من الرواية ان اعتبار العدالة في مرجع التقليد هو لأجل الأمن من الكذب والخيانة، لا تعبّداً، وعليه فيجوز تقليد من هو موثوقاً ومأموناً من الكذب والخيانة، ويجوز الاعتماد على آرائه وأقواله. وبالجملة، فإن الوثاقة كافية في صحّة الاعتماد على رأيه.
والخلاصة إلى هنا: أنه لا دليل على اشتراط العدالة لا سيّما ان مقتضى إطلاق الآية الشريفة المستدل بها على حجّية الفتوى: ﴿فلولا نفر من كل فرقة طائفة ...الآية﴾، وكذا آية السؤال -بناء على الاستدلال بها-، وكذا إطلاق الأخبار هو عدم الفرق في حجّية إنذار الفقيه أو قول العالم بين عدالته وفسقه. كما أن بناء العقلاء قائم على رجوع الجاهل إلى العالم من غير تقييد بما إذا كان العالم عادلاً.
ولكن مع ذلك كلّه، فإن الإنصاف: هو اعتبار العدالة في مرجع التقليد، وذلك للتسالم بين الأعلام قديماً وحديثاً، وفي جميع الأعصار والأمصار، ولا يضّر به مخالفة بعض متأخري المتأخرين، لا سيّما أن شرط العدالة في مرجع التقليد أمر مرتكز في أذهان المتشرعة بل المرتكز عندهم ان من كان فاسقاً في فترة من الزمن ثم تاب إلى الله -عزّ وجلّ- فلا يصلح لأن يتبوّأ هذا المنصب العظيم، فالعدالة المعتبرة عند المتشرعة في مرجع التقليد مرتبة عالية جدّاً فوق العدالة المعتبرة في الشاهد وإمام الجماعة ونحوهما.
ومن هنا، قال صاحب الحدائق: «ان الذي ظهر لنا الآن بعد التأمل في الأخبار بعين الفكر والاعتبار ان العدالة في الحاكم الشرعي من قاضٍ ومفتٍ أخصّ ممّا ذكر من معنى العدالة بأي المعاني المتقدمة اعتمدت، لأنه نائب عن الإمام وجالس في مجلس النبوّة والإمامة ومتصدي للقيام بتلك الزعامة فلا بدّ فيه من مناسبة للمنوب عنه وذلك بأن يكون متصفاً بعلم الأخلاق وهو تحلية النفس بالفضائل وتخليتها عن الرذائل. (إلى أن قال): والأخبار التي دلّت على الاكتفاء بحسن الظاهر في العدالة إنما موردها الشاهد والإمام ولا دلالة فيها على التعرض للنائب عنهم عليهم السلام». (انتهى كلامه).
أقول: سيأتي إن شاء الله تعالى قريباً بيان معنى العدالة وحقيقتها، وأنه هل لها مراتب عديدة أم لا.
هذا، وقد ذكر السيد الحكيم (رحمه الله) في المستمسك أمراً يحسن ذكره هنا، قال: «والإنصاف أنه يصعب جدّاً بقاء العدالة للمرجع العام في الفتوى -كما يتفق ذلك في كل عصر لواحد أو جماعة- إذا لم تكن بمرتبة قوية عالية ذات مراقبة ومحاسبة فإن ذلك مزلّة الأقدام ومخطرة الرجال العظام ومنه سبحانه نستمد الاعتصام». (انتهى كلامه).
[1] وسائل الشيعة: باب 10 من أبواب صفات القاضي، ح20.
|