وعليه، فلا إِشكال في وجوب ستر بدنها في الجملة، وإنّما الخلاف قد وقع في مواضع:
منها: الرأس، فإنّ المعروف بين الأعلام وجوب ستره، بل لم يُنسب الخلاف فيه إلاَّ إلى ابن الجنيد.
وقد يُستدلّ له: بموثّقة عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله N «قال: لا بأس بالمرأةِ المسلمة الحرَّة أنْ تصلّي وهي مكشوفة الرأس»[i]f18.
وأجاب عنها الشَّيخ R: بالحمل على الصغيرة، أو على حالة الضرورة، وعن صاحب الحدائق R: أنّها محمولة على التخلّي عن الجلبابِ، وإن كان عليها خمار، قال R في الحدائق: «والأظهر عندي حَمْل الرِّواية على أنّ المراد بكشف الرأس: يعني من القناع الذي أشرنا سابقاً إلى أنّه يستحبّ لها التقنّع زيادة على ستر الرأس الواجب»، وفي كشف اللثام: «تُحْمل على النافلة، أو أن يراد أنّه لا بأس بها أن تكون بين أيدينا مكشوفة الرأس، ونحن نصلّي، أو وأنت تصلّي».
أقول: كلّ هذه المحامل بعيدة جدّاً عن ظاهر الموثّقة، فلا تُحمَل عليها.
وقال المحقّق R في المعتبر: «إنّ هذه الرِّواية مُطرحة، لضعف عبد الله بن بكير، فلا تُترك لخبره الأخبارُ الصحيحة المتّفق على مضمونها»، قال صاحب المدارك بعد أن نقل هذا الكلام عن المحقّق R : «وهو حسن».
أقول: لا يوجد فيه شيء من الحسن، فإنّ عبد الله بن بكير من أصحاب الإجماع الذين أجمعت الطائفة على عدالتهم، ووثاقتهم.
وأمّا كونه فطحيّاً ففيه: أنّ كثيراً من الأجلاّء كانوا فطحيّةً في بداية الأمر حين استشهد الإمام الصّادق N، واتّبع النّاس عبد الله الأفطح ابن الإمام N، إلاّ أنّه لم يعش كثيراً بعد شهادة الإمّام الصادق N، وقيل: إنّه عاش بعد أبيه أربعينَ يوماً، ورجعتِ الناس حينئذٍ إلى الإمام الكاظم N، ومنهم عبد الله ابن بكير.
وعليه، فالفطحية لم تدم طويلاً.
وبالجملة، فلا إشكال من هذه الجهة.
نعم، في السَّند محمّد بن عبد الله الأنصاري، وهو لم يوثّق.
ولكن الإنصاف: أنّ محمّد بن عبد الله الأنصاري هو نفسه محمّد بن عبد الله بن غالب الأنصاري الثقة، فلا إشكال حينئذٍ من حيث السَّند.
وأمّا من حيث الدَّلالة فهي واضحة جدّاً في جواز صلاة المرأة الحرَّة مكشوفة الرأس، وكلّ الاحتمالات المتقدِّمة بعيدة عن الواقع.
وذكر جماعة من الأعلام أنَّ الأصحاب أعرضوا عنها، وبذلك تسقط عن الحجيَّة.
وفيه: ما عرفته في أكثر من مناسبة من أن إعراض المشهور لا يوجب الوهن.
ولكنَّ الإنصاف: أنّ هذه الموثّقة ساقطة عن الحجيَّة، لمخالفتها السنَّة القطعيَّة، فإنَّ الرّوايات المستفاد منها وجوب ستر الرأس بالدَّلالة المطابقيّة والإلتزاميّة، والقرائن الخاصّة متواترة، ولولا ذلك لكان مقتضى الصناعة العلميّة حَمْل الرّوايات الدّالة على ستر الرأس على الإستحباب جمعاً بينها، وبين موثَّقة عبد الله بن بكير.
وأمّا قول السِّيد أبو القاسم الخوئي (قدِّسَ سِرّه الشَّريف) «بأنَّه لا يصحّ الحمل على الإستحباب لِما في بعض تلك النصوص ما يأبى لسانه عن الحمل عليه، وهي صحيحة زرارة، قال: سألت أبا جعفر N عن أدنى ما تصلّي فيه المرأة، قال: دِرْع، ومِلْحَفة فتنشرها على رأسها، وتجلّل بها»[ii]f19، فإنَّ السُّؤال عن أقلّ الواجب، وأدنى ما يجزي عنه، وقدِ اعتبر N في الجواب ستر الرّأس، فكيف يُحمل على الإستحباب؟!».
ففيه: أنّ السُّؤال، وإن كان عن أقلّ الواجب، ولكنّ العبرة في الجواب، لا في السؤال، وقد اشتمل جواب الإمام N على أكثر من الواجب، إذ التجلّل مستحب، وليس بلازم.
وبالجملة، فإنّ الجواب قابل للحمل على الإستحباب.
والخلاصة: أنّ الموثَّقة ساقطة عن الحجيَّة لمخالفتها للسنّة القطعية.
ومنها: الشَّعر، فالمعروف بين الأعلام وجوب ستره، ومنهم خيرة العامليين، كالمصنِّف هنا، وفي الذكرى، والشهيد الثاني R في الروض، والمقاصد العليّة، والمحقّق الكركي R في جامع المقاصد، وفوائد الشرائع.
وبالمقابل حُكي عن القاضي: عدم وجوب ستره، وعن الكفاية: التأمّل فيه، كما أنّ عدم الوجوب ظاهر صاحب المدارك R، بل قال: «ربّما ظهر من عبارات أكثر الأصحاب أنّه غير واجب».
أقول: اِعلم أنّ الشّعر خارج عن مسمّى الجسد فلا يعمّه قولهم: إنّه يجب على المرأة ستر جميع بدنها عدى ما استُثني.
ثمَّ إنّ المصنِّف R في الذكرى استدلّ لوجوب ستر الشَّعر بصحيحة الفُضَيل عن أبي جعفر N «قال: صلَّتْ فاطمة X في دِرْعٍ، وخِمَارُها على رَأْسِها، ليسَ عليها أكثرُ ممَّا وارت به شَعْرَها وأُذُنَيْها»[iii]f20، قال صاحب المدارك R: «وهي مع تسليم السَّند لا تدلّ على الوجوب...».
أقول: أصاب صاحب المدارك R من جهة عدم الدَّلالة على الوجوب، ولم يُصِب من جهة السَّند، لأنَّ الرِّواية صحيحة، سواء أكان المراد من الفُضَيل هو ابن يسار، أم الفُضَيل بن عثمَّان الأعور.
أمّا الأوَّل: فقد قال الشَّيخ الصَّدوق R في المشيخة: «وما كان فيه عن الفُضَيل بن يسار فقد رويته عن محمّد بن موسى بن المتوكلW، عن عليّ بن الحسين السَّعد آبادي، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن الفُضَيل بن يسار»، وما يمكن الخدشة فيه هو محمّد بن موسى بن المتوكّل، وعليّ بن الحسين السعد آبادي.
لكنّ الإنصاف: أنَّ الأوَّل أي ابن المتوكل من المعاريف ما يكشف ذلك عن وثاقته.
ويؤيِّده: توثيق ابن طاووس والعلاّمة (رحمهما الله) وتوثيقات المتأخِّرين، وهي وإن لم تكن حجّة، إلاّ أنّها صالحة للتأييد.
وأمّا الثاني: فهو من مشايخ ابن قولويه المباشرين، وقد وثّق ابن قولويه مشايخه المباشرين في مقدّمة كامل الزيارات.
هذا إذا كان الفُضَيل هو ابن يسار، وأمّا إذا كان هو ابن عثمَّان الأعور فالأمر أسهل، حيث قال الشَّيخ الصَّدوق R في المشيخة: «وما كان فيه عن الفُضَيل بن عثمَّان الأعور فقد رويته عن محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليدW، عن محمّد بن الحسن الصفار، عن محمّد بن عيسى بن عُبَيد، عن صفوان بن يحيى، عن فضيل بن عثمَّان الأعور».
وعليه، فلا يوجد ما يخدش بهذا السَّند.
ومهما يكن، فالرِّواية صحيحة.
وأمّا الجهة التي أصاب فيها: فهي عدم دلالتها على الوجوب، لأنّ ستر الشَّعر والأُذُنَيْن هو فِعل من سيدة النساء فاطمة X، وفِعْل المعصوم مجمل، وغايته الرجحان، فلا يُستفاد منه الوجوب.
والإنصاف: أنّه يُستدلّ على وجوب ستر الشَّعر بالأخبار الدّالة على وجوب ستر المرأة بدنها، باعتبار اشتمالها على الخِمار والمقنعة التي هي عبارة عن الخِمار أيضاً، وباعتبار اشتمالها أيضاً على المِلْحَفة التي تلتفّ بها، فهذه الأمور تستر الرأس والشَّعر والعُنُق.
أمّا المِلْحَفة فظاهر، حيث إنّها بعد التقنّع بها تلفّها وتضمّها على بدنها، وأمّا بالنسبة إلى الخِمَار فإنّ الظاهر بل المعلوم انحداره عن العُنُق، وزيادة، ولا اختصاص له بالرأس، ولا سيّما الخمار المعمول الآن، والمتعارف بين نساء هذا الزمان، فهو أبلغ، وأظهر في ستر الرأس والشَّعر والعُنُق.
وبالجملة، فإنّ النصوص المذكورة لا يُنكَر ظهورها في ذلك، والله العالم.
[i] الوسائل باب 29 من أبواب لباس المصلِّي ح5.
[ii] الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلِّي ح9.
[iii] الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلِّي ح1.
|