محاولات دفع الإشكال في فعلية وجوب المقدمة قبل ذيها:
قال صاحب الكفاية R: «إذا عرفت ذلك، فقد عرفت أنّه لا إشكال أصلا في لزوم الإتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب، إذا لم يقدر عليه بعد زمانه، فيما كان وجوبه حالياً مطلقاً، ولو كان مشروطاً بشرط متأخر، كان معلوم الوجود فيما بعد، كما لا يخفى... فانقدح بذلك: أنّه لا ينحصر التفصي عن هذه العويصة بالتعلق بالتعليق، أو بما يرجع إليه، من جعل الشرط من قيود المادة في المشروط».
ذكرت عدّة محاولات للتفصّي عن إشكال لزوم فعل المقدمة قبل زمان ذيها:
المحاولة الأولى: وهي لصاحب الفصول R، وهي مبنيّة على ثبوت الواجب المعلّق بدعوى أنّ وجوب ذي المقدمة فعليّ قبل الوقت إلا أنّ الواجب معلّق على دخوله، وعليه فلا مانع من ترشّح وجوب المقدمة من وجوب ذيها.
المحاولة الثانية: وهي مختار صاحب الكفاية، وهي مبنيّة على ثبوت الشرط المتأخّر، فيكون وجوب الحج مثلاً فعلياً من حين الاستطاعة، إلا أنّه مشروط بمجيء يوم عرفة على نحو الشرط المتأخر.
المحاولة الثالثة: وهي للأردبيلي وتلميذه صاحب المدارك R؛ حيث ذكراها في مسألة تعلّم الأحكام.
وحاصلها: إنّ وجوب المقدمة وجوب نفسي استقلالي تهيّئي استعدادي؛ أي من أجل أن يتهيّأ المكلف ويستعدّ لإيجاب ذي المقدمة عليه، وليس وجوباً غيرياً حتى يرد إشكال ترشّحه عن ذيها قبل وجوبه الفعلي.
إذاً وجوب المقدمة وجوب استقلالي نفسي تهيّئي وإن كانت المصلحة لا تكمن في متعلّقه بقطع النظر عن ذي المقدمة. ومن هنا كان وجوب المقدمة ذا وجه نفسي بالنظر إلى استقلاليّته، ووجه غيري بالنظر إلى المصلحة الكامنة في ذي المقدمة.
وفيه: أوّلاً: لا يكفي دعوى النفسية لهذا الوجوب طالما ملاك الغيرية موجود، وهو أن يكون الوجوب ناظراً لمصلحة كامنة في متعلّق وجوب آخر، فتكون إرادة التهيّؤ إرادة غيرية، فيمتنع حينئذٍ أن يكون الوجوب الناشئ منها نفسياً، بل يلزم أن يكون غيرياً، فيرجع الإشكال المتقدم.
ثانياً: إنّ الوجوب بهذا المعنى؛ أي التهيّؤ والاستعداد، على فرض إمكانه في نفسه إلا أنّه لا دليل عليه.
المحاولة الرابعة: المقدمة المفوتة
وهي للميرزا النائيني وتلميذه السيد الخوئي R وجماعة من أعلام هذه المدرسة. ولبيان هذه المحاولة نقول: إنّ المقدمة إمّا أن تكون مقدمة علمية؛ بمعنى لزوم تحصيل العلم بالأحكام والفحص عنها، أو غير علمية يُعبّر عنها بالمقدمة الوجودية؛ بمعنى أنّ وجود ذي المقدمة متوقّف عليها؛ كالحج على البعيد حيث إنّه متوقف على قطع المسافة، وهي ما يعبّر عنها بالمقدمة المفوّتة؛ أي التي يفوت الواجب بفواتها.
ولنبدأ بالمقدمة المفوتة أوّلاً: اعلم أنّه لا يجب تحصيل كلّ مقدمة مفوّتة، وإنّما يجب تحصيلها في الجملة وفي بعض الموارد؛ مثلاً: لم يلتزم أحد من الأعلام بوجوب السير إلى الحج قبل الاستطاعة لمن يعلم بحصولها فيما بعد مع عدم تمكّنه من السير بعدها. وعليه، فلا بدّ من الضابطة للموارد التي يجب فيها تحصيل المقدمات مع العلم أنّه لم يقم دليل بالخصوص في كلّ مورد حكموا فيه بلزوم تحصيل المقدمات المفوتة.
ثمّ إنّ الضابطة تتوقف على بيان كيفية اعتبار القدرة في متعلّق التكليف.
فنقول: إنّ القدرة إمّا أن تكون عقليّة أو شرعيّة، والأولى ما لم تؤخذ في لسان الدليل، ولا دخالة لها في ملاك الحكم، وإنّما اعتبرها العقل من باب قبح تكليف العاجز كما تقدم سابقاً.
والثانية ما تؤخذ في لسان الدليل ويكون لها دخالة في ملاك الحكم أو متعلقه؛ فالأوّل كما في قوله تعالى: «وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً »( )؛ حيث أخذ الشارع الاستطاعة في لسان الدليل، وهي أيضاً لها دخالة في ملاك الحكم. والثاني كما في قوله تعالى: «ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ »( )؛ حيث أخذ الوضوء في لسان دليل وجوب الصلاة، وهو داخل في ملاك متعلّق الحكم.
القدرة العقليّة:
إذا عرفت ذلك، فنقول: إذا كانت القدرة المعتبرة في المقدّمة قدرة عقلية، فيجب تحصيل المقدمة التي لم تكن حاصلة ولو قبل مجيء زمان الواجب، بل وقبل تمامية ملاك الوجوب أيضاً؛ لما عرفت من أنّ مناط حكم العقل باعتبار القدرة إنّما هو قبح تكليف العاجز، وعليه فإذا كان ترك المكلّف المقدمة هو من عجّزه عن إتيان ذيها، فهنا يحسن عقابه من قبل المولى ولا يقبح.
وبالجملة، فإذا جاء وقت الامتثال، ورأى نفسه عاجزاً عن الإتيان بالواجب، فهنا وإن كان يقبح خطابه بالامتثال لمكان عجزه وعدم الفائدة من الخطاب؛ لأنّ غايته تحريك عضلات المكلّف نحو الفعل، والفرض أنّه لا يمكن التحرك لعدم قدرته على الامتثال، إلا أنّه لا يقبح عقابه طالما أنّ سبب العجز كان سوء اختياره، فتنطبق القاعدة المعروفة (إنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وينافيه خطاباً).
خلافاً للمحكي عن أبي هاشم؛ حيث قال أنّه لا ينافيه لا عقاباً ولا خطاباً، فلو ألقى شخص نفسه من شاهق، كان للمولى أن يأمره بحفظ نفسه باعتبار أنّه لا مانع من التكليف بغير المقدور إذا كان العجز مستنداً إلى سوء اختياره.
وفيه: أنّ الغرض من التكليف، كما عرفت، هو إحداث الداعي للمكلّف نحو الفعل، فإذا لم يمكن ذلك، امتنع تكليفه بذلك؛ لكونه لغواً. ومن الواضح أنّه لا فرق في امتناع التكليف بين أن يكون عجزه عن الامتثال مستنداً إلى سوء اختياره أو لا.
وفي مقابل هذا الرأي ذهب بعض الأعلام إلى أنّ الامتناع بالاختيار ينافي الاختيار عقاباً وخطاباً؛ أمّا خطاباً؛ فلما عرفت، وأمّا عقاباً؛ فلأنّه عقاب على غير المقدور، وهو قبيح عقلاً.
وفيه: أنّ القبح إنّما هو لو كان عاجزاً بنفسه وذاته عن الامتثال، ولا يشمل ما لو عجّز نفسه؛ لأنّ هذا العجز منتهٍ إلى الاختيار، فلا يرى العقل قبحاً في عقابه.
وبالجملة، يصدق على هذا المكلف الذي عجّز نفسه أنّه قادر على الامتثال بقدرته على المقدمة، فيكون قادراً بالواسطة، فإذا ترك الواسطة باختياره لا يقبح عقابه حينئذٍ. وعليه، فالقاعدة المتقدّمة (إنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وينافيه خطاباً)، سليمة ولا غبار عليها.
والخلاصة: إنّ القدرة المعتبرة إن كانت عقلية، فلا بدّ من تحصيل المقدمة التي يفوت الواجب بفواتها، وإن كان ذلك قبل توجّه الخطاب بذي المقدمة، بل وقبل تمامية ملاك ذي المقدمة؛ مثلاً: لو فُرض أنّ التكليف بصوم الغد لم يقيّد بالقدرة الشرعية، وإنّما اعتبرت فيه القدرة العقلية حتى لا يكون من تكليف العاجز، وكان صوم يوم غد يتوقف على غسل الجنابة، فلو ترك المجنب الغسل في الليل حتى طلع الفجر، لامتنع تكليفه بالصوم بسوء اختياره، فنيدرج تحت (الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً) من غير فرق بين أن يكون لزمان الغد دخل في ملاك الواجب فقط، أو كان له دخل في ملاك الوجوب أيضاً؛ لأنّ العبرة هي الامتناع بالاختيار بعد ما كانت القدرة العقلية لا دخالة لها في الملاك.
|