من المكلَّف، أو المُميِّز المُسلِم الخالي عن السَّفر والمرض، والحيض والنِّفاس والجنابة على وجه، والإغماء، والسُّكر، وطول النَّوم (1)
(1) يقع الكلام تارةً: في شرائط صحَّة الصَّوم.
وأخرى: في شرائط وجوب الصَّوم.
وهما بحثان مُستقلاَّن، ذكرهما الأعلام. ولكنَّ المصنِّف (رحمه الله) ذكرهما في مبحث واحد في الدَّرس السَّبعين الآتي.
وبناءً على ذلك نتكلَّم عنهما بالتَّفصيل هناك إن شاء الله تعالى .
* * *
فيُشترط نيَّة الوجوب أو النَّدب (2)
(2) ذكر المصنِّف (رحمه الله)، وجماعة من الأعلام، أنَّه تُشترط في الصَّوم نيَّة الوجوب، أو النَّدب، أي قصد الصَّوم بعنوان الوجوب إن كان واجباً، أو قصد الصَّوم بعنوان النَّدب إن كان مندوباً.
وقد ذكروا أنَّ الوجه في لزوم التّعرُّض لأحدهما هو صلاحيّة الزَّمان لوقوع الصَّوم فيه على الوجهَيْن.
وعليه، فتميُّز العبادة وتشخُّصها لا يحصل إلاَّ بالقصد.
نعم، لو تعيَّن أحدهما بأصل الشَّرع أو بسبب عارض، كشهر رمضان، وما يتعلَّق به النَّذر بخصوصه، أو يوم غير أيّام الشَّهر لِمَنْ ليس عليه صوم، لم يجب التّعرُّض لأحدهما.
ولكنَّ الإنصاف: أنَّه لا تُعتبر نيَّة الوجوب، ولا النَّدب؛ لأنَّهما خُصوصيّتان قائمتان بنفس الأمر، ولا يختلف مُتعلَّق أحدهما عن الآخر، فلو تخيّل أنَّ صوم شهر رمضان مُستحبّ، فصام بقصد القربة وامتثال الأمر، تحقَّقت منه العبادة، كما لو تخيَّل أنَّ صلاة اللَّيل واجبةٌ، فصلَّى بتخيُّل الوجوب، تحقَّقت منه العبادة أيضاً.
هذا كلُّه بناءً على ما ذهب إليه المشهور من أنَّ الوجوب والنَّدب خُصوصيّتان قائمتان بنفس الأمر.
وأمَّا على ما هو الصَّحيح عندنا من أنَّ الوجوب يُنتزع عقلاً عند الأمر بالشَّيء مع عدم التَّرخيص بالتَّرك، والاستحباب يُنتزع عقلاً عند الأمر بالشَّيء مع التَّرخيص بالتَّرك، فالأمر أوضح؛ لعدم كونهما من خصوصيّات الأمر، ولا من خصوصيّات المأمور به، فلا مُوجب حينئذٍ للزوم التّعرُّض لقصد الوجوب أو الندب، والله العالم.
وأمَّا لزوم التّعرُّض للأداء أو القضاء، فلا بُدّ منه؛ لاختلاف مُتعلَّق أحدهما عن الآخر، فإنَّ الأداء عبارة عن إتيان العمل في الوقت، والقضاء عبارة عن إتيانه خارج الوقت بأمر جديد غير الأمر بالأداء السَّاقط.
وعليه، فهما مُتعدِّدان أمراً ومُتغايران مُتعلَّقاً، فإذا تعدَّد المأمور به، فلابُدّ من قصده ولو إجمالاً ليمتاز عن غيره.
* * *
والقُربة (1)
(1) تسالم الأعلام قديماً وحديثاً، وفي جميع الأعصار والأمصار، على كون الصَّوم أمراً عباديّاً، فيُعتبر فيه القُربة ﷲ سبحانه وتعالى بأيِّ نوعٍ من أنواعها، وقد تقدَّم الكلام عنها في مبحث الوضوء والأغسال والصَّلاة والحجّ والزَّكاة. كما أنَّه يُعتبر فيه الإخلاص، كغيره من العبادات.
وممَّا يُؤكِّد كون الصَّوم أمراً عباديّاً: ما ورد في حسنة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث «قَاْل: ذروةُ الأمر، وسنامه، ومفتاحه، وباب الأشياء، ورضى الرَّحمان، الطَّاعة للإمام بعد معرفته، أمَا لو أنَّ رجلاً قام ليله، وصام نهاره، وتصدَّق بجميع ماله، وحجَّ جميع دهره، ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على الله حقٌّ في ثوابه، ولا كان من أهل الإيمان»[1].
فإنَّه من الواضح أنَّ المراد بهذه الأمور المذكورة في الرِّواية هو الإتيان بها على جهة العبادة، فلو أتى بها كذلك بدون الولاية، لم ينفعه شيء، وتكون هذه الأمور باطلة. فالمراد بالصَّوم الوارد في الحسنة هو الإتيان به ﷲ تعالى لا مجرَّد الإمساك عن المُفطِّرات بدون التّقرُّب.
* * *
ليلاً (2)
(2) المعروف بين الأعلام أنَّ آخر وقت النِّيّة في الواجب المُعيّن، رمضاناً كان، أو غيره من النَّذر المُعيّن، أو المُطلق المُضيّق، أو القضاء المُضيّق بناءً على أنَّه يتضيّق هو عند طُلُوع الفجر الصَّادق، أي عند أوَّل جُزء من الصَّوم، كغيره من الأعمال؛ تحصيلاً للمُقارنة المفهوم اعتبارها من حسنة أبي حمزة الثّمالي عن عليّ بن الحُسَين (عليه السلام) «قَاْل: لَاْ عمل إلاَّ بنيّة»[2]. وكذا غيرها من الرِّوايات.
وبالجملة، فالصَّوم كغيره من العبادات المشروطة بالنّيَّة، حيث يُعتَبر في صحَّتها حصولها بجملتها من أوَّلها إلى آخرها بقصد الإطاعة، ولكن لمّا كان تحصيل ذلك متعسِّراً إن لم يكن متعذِّراً ضرورة عدم العلم بطلوع الفجر إلاَّ بعد الوقوع فتقع النّيَّة بعده اجتزأ الشَّارع المقدَّس عن ذلك في الصَّوم المعيَّن فضلاً عن غيره بوقوعها في اللّيل في أيِّ جزءٍ منه، خلافاً لبعض العامَّة، حيث خصَّتها بالنّصف الثاني من اللّيل.
وهو باطلٌ جزماً؛ إذ لا شكَّ في جواز النَّوم من اللّيل إلى طلوع فجر اليوم الذي وجب صومه من رمضان أو غيره.
وعن ابن أبي عقيل (رحمه الله) أنَّه: «يجب على مَنْ كان صومه فَرضاً عند آل الرسول (عليهم السلام) أن يُقدِّم النّيّة في اعتقاد صومه ذلك من اللّيل»[3].
وظاهره وجوب تبييتها ليلاً. ولكن يمكن حمله على تعسُّر المقارنة بها أو تعذُّرها، فإنَّ الطلوع لا يُعلم إلاَّ بعد وقوعه فتقع النّيّة بعده، وهو يستلزم فوات جزء من النهار بغير نيَّة.
وحُكيَ عن السّيّد المرتضى (رحمه الله): جواز التأخير عمداً إلى الزوال. كما حُكي عن ابن الجنيد (رحمه الله) جواز التأخير إلى ما قبل الغروب.
ويُمكن حمل كلامهما على الواجب غير المعيَّن.
وبالجملة، فلا إشكال في إجزاء تبييتها ليلاً، إلاَّ أنَّه يُعتبر فيه كونه مُستمرّاً على حُكمها غير ناقضٍ لها بما يُنافيها من نيَّة أُخرى أو غيرها، وهو ما يُعبّر عنه بالاستدامة الحُكميّة.
ومن هنا، لا تبطل النِّيّة بفعل ما يُنافي الصَّوم بعدها قبل طُلُوع الفجر، سواء في ذلك الجُماع وغيره؛ لإطلاق دليل الإجزاء.
وهذا خلافًا للمُصنِّف (رحمه الله) في البيان، حيث جزم بعدم بُطلانها بالتناول، ثمَّ قال: «وفي الجماع وما يوجب الغُسْل تردُّدٌ، من أنَّه مُؤثِّرٌ في صيرورة المُكلَّف غير قابل للصَّوم، فيُزيل حُكم النِّيّة، ومن حصول شرائط الصِّحَّة وزوال المانع بالغُسْل...»[4].
وهذا الكلام ليس تامّاً؛ ضرورة أنَّ الصَّوم المنويّ هو من طُلُوع الفجر، فلا مدخليّة لأجزاء اللَّيل الَّتي يقع فيها المُفطِّر.
وقد تحصَّل ممَّا ذكرناه: أنَّه ليس للنِّيّة في شيءٍ من العبادات، فضلاً عن الصَّوم، محلٌّ شرعيٌّ تعبُّديُّ، بل محلُّها عقلاً قبل الفعل، بشرط تأثيرها في وقوع الفعل منويّاً.
ويترتَّب على ذلك: جواز تقديمها قبل اللَّيل بعد فرض استمرار حُكمها إلى زمان حُصول الفعل.
وعليه، فليس للَّيل من حيث هو خُصوصيَّة في ذلك، فلو فُرض أنَّه عزم من هذا اليوم الَّذي هو آخر شعبان مثلاً على أن يصوم الغد الَّذي هو أوَّل رمضان، ونام على هذا العزم، ولم ينتبه إلى الغد، أو انتبه ولم يلتفت تفصيلاً إلى أنَّ الغد من رمضان حتَّى يتجدَّد عزمه، ولكن كان بحيث لو سأله سائلٌ عمَّا عليه عزمه في صوم الغد لأخبره بذلك، كما هو من لوازم استدامتها حُكماً، لصحَّ صومه بلا إشكال.
[1] الوسائل باب 29 من أبواب مُقدِّمة العبادات ح2.
[2] الوسائل باب 5 من أبواب مُقدِّمة العبادات ح1.
[3] حياة ابن أبي عقيل العماني: ص271.
|