(1) المعروف بين الأعلام كراهة ذلك، وفي الجواهر: «بل هو المشهور نقلاً، إن لم يكن تحصيلاً...».
أقول: قد استدلّ لذلك ببعض الأخبار:
منها: صحيحة علي بن جعفر عن أبي الحسن N «قال: سألتُه عن الرّجل (هل يصلح أن خ ل) يصلّي والسّراج موضوع بين يديه في القبلة؟ قال: لا يصلح له أن يستقبل النار»[i]f658.
ومنها: موثّقة عمّار السَّاباطي عن أبي عبد الله N في حديث «قال: لا يصلّي الرّجل وفي قبلته نار، أو حديد قلت: ألَه أن يصلّي وبين يديه مجمرة شبه؟ قال: نعم، فإنْ كانَ فيها نار فلا يصلّي حتّى ينحِّيها عن قِبلته. وعن الرّجل يصلّي وبين يديه قِنديل معلّق فيه نار، إلاّ أنّه بحياله؟ قال: إذا ارتفع كان أشرّ ، لا يصلي بحياله»[ii]f659.
وحُكي عن أبي الصّلاح القول بالحرمة، أخذاً بظاهر النهي في الروايتَيْن.
وفيه: أمّا الصحيحة فهي ظاهرة في الكراهة، فإنَّ «لا يصلح» كما عرفت في أكثر من مناسبةٍ ظاهرة في الكراهة.
وأمّا الموثّقة: فإنّها، وإن كانت ظاهرة في الحرمة، إلاّ أنها محمولة على الكراهة، لعدَّة قرائن، منها عطف الحديد على النّار، مع أنّه لم يفتِ أحد بحرمته، كما تقدَّم.
ومنها: قوله في ذَيْلها: «إذا ارتفع كان أشرّ» فإنّه ظاهر في الشدّة والضعف اللذين هما من أوصاف الكراهة.
ومنها: الشّهرة العظيمة على الكراهة.
ومنها: مرفوعة عَمْرِو بن إبراهيم الهمداني عن الصّادق N «قال: لا بأس أن يصلّي الرّجل والنّار والسّراج والصّورة بين يديه، إنّ الذي يصلّي له أقرب إليه من الذي بين يديه»[iii]f660، ولكنّها ضعيفة بالرفع، وبجهالة الحسين بن عَمْرو، وأبيه، وعمرو بن إبراهيم الهمداني.
ومنها: التوقيع المروي عن كتاب إكمال الدين عن أبي الحسين محمّد جعفر الأسدي، فيما ورد عليه من محمّد بن عثمان العَمْري عن صاحب الزمان N في جواب مسائله: «وأمَّا ما سألت عنه من أمر المصلّي والنّار والصّورة والسّراج بين يديه، وأنّ النّاس قدِ اختلفوا في ذلك قبلك، فإنّه جائز لِمَن لم يكن من أولاد عبدة الأصنام والنيران»[iv]f661.
ورواه الطبرسي R في الاحتجاج عن أبي الحسين محمّد بن جعفر، وزاد: «ولا يجوز ذلك لِمَنْ كان من أولادِ عبدةِ الأوثانِ والنيرانِ»[v]f662.
وهو، وإن كان ضعيفاً في الاحتجاج بالإرسال، إلاّ أنّ السّند معتبر في إكمال الدين، لأنّ الشّيخ الصّدوق R رواه عن أربعة من مشايخه، محمّد بن أحمد الشيباني، وعلي بن أحمد بن محمّد الدّقّاق، والحسين بن إبراهيم المؤدّب، وعليّ بن عبد الله الورّاق، عن أبي الحسين محمّد بن جعفر الأسدي، ومشايخ الصّدوق R الأربعة وإن لم يرد فيهم توثيق بالخصوص ولكنّ الشّيخ الصّدوق R ترحّم عليهم كثيراً، مع كون بعضهم كثير الرّواية، وهذا، وإن لم يوجب التوثيق، لكنّ ضمّ بعضهم إلى البعض الآخر يوجب الاطمئنان بصِدق حكايتهم للحديث.
ثمّ إنّ هذه القرائن التي أوجبت الحمل على الكراهة، وإن كان بعضها ضعيفاً، إلاّ أنّ المجموع يُورِث الاطمئنان، والله العالم.
(1) المراد ببيوت النيران: البيوت التي أُعدّت لإضرام النار فيها عادة، كالفرن، والمطابخ، ونحوها، والمشهور بين الأصحاب كراهة الصّلاة فيها، بل في الذّكرى، وجامع المقاصد: نسبته إلى الأصحاب، بل عن الغُنية: «الإجماع عليه»، وفي المدارك: «وإنّما كُرِهت الصّلاة في هذه الأماكن لأنّ في الصّلاة فيها تشبهاً بعبادتها، كذا ذكره العلامة في جملةٍ من كتبه، وهو ضعيف جدّاً، والأصحّ اختصاص الكراهة بمواضع عبادة النيران، لأنّها ليستْ موضعَ رحمةٍ، فلا تصلح لعبادة الله تعالى».
أقول: ليست الأحكام الشرعية مبنيةً على المناسباتِ الاعتبارية.
وعليه، فما حكاه صاحب المدارك R عن العلاّمة R في غير محلّه، كما أنّ ما اختاره هو في غير محلّه أيضاً، لأنّه مبني على وجهٍ اعتباريٍّ لا يصلح مدركاً للحكم الشّرعي.
وأمّا الشّهرة الفتوائيّة، والإجماع المنقول بخبر الواحد: فهما غير حجّة أيضاً، إلاّ على القول بشمول التسامح في أدلةّ السنن والمكروهات لمثل ذلك.
وفيه: ما عرفت. والمسألة خالية عن النص.
(1) قال ابن إدريس R في السّرائر: «تُكره الصّلاة في وادي الشَّقِرة بفتح الشين، وكسر القاف : واحد الشَّقر، موضع بعينه مخصوص، سواء كان فيه شقائق النعمان، أم لم يكن، وليس كلّ وادٍ يكون فيه شقائق النعمان تُكره فيه الصّلاة، بل في الموضع المخصوص فحسب، وهو بطريق مكة، لأنّ أصحابنا قالوا: تُكره الصّلاة في طريق مكّة بأربعةِ مواضع، من جملتها وادي الشقرة».
وقال العلاَّمة R في المنتهى: «الشَّقِرة بفتح الشين وكسر القاف : واحد الشَّقر، وهو شقائق النعمان، وكلّ موضع فيه ذلك تُكره الصّلاة فيه، وقيل: وادي الشَّقِرة موضع مخصوص بطريق مكّة، ذكره ابن إدريس، والأقرب الأوّل، لِمَا فيه من اشتغال القلب بالنظر إليها، وقيل: هذه مواضع خَسْف، فتُكره الصّلاة فيها لذلك».
ثمّ إنّه قدِ استُدل للقول بالكراهة بعدّة روايات:
منها: مرسلة الفقيه «قال: رُوي أنّه لا يُصلّى في البيداء، ولا ذات الصّلاصل، ولا وادي الشّقرة، ولا وادي ضَجْنان»[vi]f663، ولكنّها ضعيفة بالإرسال.
ومنها: مرسلة ابن فضّال عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله N «قال: لا يُصلّى في وادي الشَّقِرة»[vii]f664، وهي ضعيفة أيضاً بالإرسال.
ومنها: رواية عمار الساباطي «قال: قال أبو عبد الله N: لا تصلِّ في وادي الشقرة، فإن فيه منازل الجن»[viii]f665، وهي ضعيفة أيضا بأبي جميلة.
وعليه، فالروايات الواردة في المقام كلها ضعيفة السند.
ثم إنه مع قطع النظر عن ضعف السند قد يقال: إن النهي ظاهر في الحرمة، فما الموجب للحمل على الكراهة؟
قلت: التعليل الواقع في الرواية الأخيرة «فإن فيه منازل الجن» فإنه يجعلها ظاهرة في إرادة الكراهة، كما لا يخفى على المتتبع في أخبار الأئمة S المشتملة على هذا النحو من التعليلات.
(1) كما عن جماعة، منهم ابن إدريس والمحقّق والعلاّمة والمصنِّف هنا وفي الذكرى (قدس الله أسرارهم جميعاً)، ولا يوجد رواية بالخصوص، وإنّما استفيد ذلك من التعليل بالتعذيب، كما في رواية جويريّة بن مسهّر «قال: أقبلنا مع أمير المؤمنين عليّ N من قتل (قتال) الخوارج، حتّى إذا قطعنا في أرض بابل، حضرتْ صلاة العصر، فنزل أمير المؤمنين N ونزل النّاس، فقال علي N: أيّها النّاس! إنّ هذه أرض ملعونة قد عُذِّبت في الدّهر ثلاث مرّات»[ix]f666، وفي خبر آخر مرتين، وهي تتوقّع الثالثة، وهي إحدى المؤتفكات، وهي أوّل أرض عُبِد فيها وثن، وأنّه لا يحلّ لنبي، ولا لوصيّ نبيّ أن يصلّي فيها...»[x]f667.
أمّا الأُولى: فضعيفة لوجود عدّة من المجاهيل في طريق الصّدوق R إلى جويريّة بن مسهّر.
والثانية: ضعيفة بالإرسال.
وعليه، فلا يمكن الاعتماد على هذه الاستفادة.
وقيل أيضاً: استفيدتِ الكراهة من التعليل بالخسف، كما عن عِلل محمّد بن علي بن إبراهيم بن هاشم «من أنّ العلّة في السّبخة أنّها أرض مخسوف بها».
وفيه: أنّ هذا استنباط من محمّد بن علي بن إبراهيم، وهو غير حجّة على غيره من الأعلام.
[i] الوسائل باب 45 من أبواب أحكام المساجد ح1.
[ii] الوسائل باب 8 من أبواب أحكام المساجد ح1.
[iii] الوسائل باب 8 من أبواب أحكام المساجد ح2.
[iv] الوسائل باب 8 من أبواب أحكام المساجد ح6.
[v] الوسائل باب 8 من أبواب أحكام المساجد ح4.
[vi] الوسائل باب 9 من أبواب أحكام المساجد ح1.
[vii] الوسائل باب 9 من أبواب أحكام المساجد ح4.
[viii] الوسائل باب 9 من أبواب أحكام المساجد ح2.
(1 2) الوسائل باب 15 من أبواب أحكام المساجد ح24.
[ix] الوسائل باب 15 من أبواب أحكام المساجد ح5.
[x] الوسائل باب 31 من أبواب أحكام المساجد ح1.
|