أقول: لا بدَّ مِنْ ذِكْر أدلَّة الطَّرفين حتَّى نعرف ما هو مقتضى الإنصاف في المقام.
أمَّا مَنْ ذهب إلى عدم وجوب الزَّكاة في هذه الحالة، فقد استدلَّ بثلاثة أدلَّة:
الأوَّل: إطلاق ما دلَّ على نفي الزَّكاة فيما إذا لم يحل الحَوْل عليه، وهو عند صاحبه، وهو بإطلاقه شامل لصورتي الفرار مِنَ الزَّكاة وعدمه، وهذا دليل قويٌّ.
الثَّاني: انقطاع المُلْك به، وهذا أيضاً صحيح.
الثَّالث: الرِّوايات الخاصَّة، وهي العمدة.
منها: صحيحة عمر بن يزيد «قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رَجُلٍ فَرَّ بِمَالِهِ مِنَ الزَّكاة، فَاشْتَرَى بِهِ أَرْضاً، أَوْ دَاراً، أَعَلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَوْ جَعَلَهُ حُلِيّاً أَوْ نُقَراً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَا مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ فَضْلِهِ فَهُوَ أَكْثَرُ مِمَّا مَنَعَ مِنْ حَقِّ الله الَّذِي يَكُونُ فِيهِ»([1]).
ومنها: صحيحة علي بن يقطين عن أبي إبراهيم (عليه السلام) «قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ يَجْتَمِعُ عِنْدِي الشَّيْءُ، فَيَبْقى نَحْواً مِنْ سَنَةٍ، أَنُزَكِّيهِ؟ قَالَ: لَا، كُلُّ مَا لَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ (عِنْدَكَ) الْحَوْلُ، فَلَيْسَ عَلَيْكَ فِيهِ زَكَاةٌ، وَكُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ رِكَازاً، فَلَيْسَ عَلَيْكَ فِيهِ شَيْءٌ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الرِّكَازُ؟ قَالَ: الصَّامِتُ الْمَنْقُوشُ، ثُمَّ قَالَ: إِذَا أَرَدْتَ ذلِكَ فَاسْبِكْهُ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي سَبَائِكِ الذَّهب وَنِقَارِ الفضَّة شَيْءٌ مِنَ الزَّكاة»([2])، وهي صحيحة بطريق الشَّيخ وحسنة بطريق الكليني.
فقوله (عليه السلام) «إِذَا أَرَدْتَ ذلِكَ فَاسْبِكْهُ...»، واضح جدّاً في المدَّعى؛ لكونه إرشاداً إلى ما يتحقَّق به الفرار مِنَ الزَّكاة.
ومنها: حسنة هارون بن خارجة عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنَّ أَخِي يُوسُفَ وُلِّيَ لِهؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَعْمَالاً، أَصَابَ فِيهَا أَمْوَالاً كَثِيرَةً، وَإِنَّهُ جَعَلَ تِلْكَ الْأَمْوَالَ (ذلك المال) حُلِيّاً أَرَادَ أَنْ يَفِرَّ بِهَا (به) مِنَ الزَّكاة، أَعَلَيْهِ الزَّكاة؟ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْحُلِيِّ زَكَاةٌ، وَمَا أَدْخَلَ عَلى نَفْسِهِ مِنَ النُّقْصَانِ فِي وَضْعِهِ، وَمَنْعِهِ نَفْسَهُ فَضْلُهُ أَكْثَرُ مِمَّا يَخَافُ مِنَ الزَّكاة»([3])، وهي واضحة جدّاً.
ومنها: رواية علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) «قال: لا تجِبُ الزَّكاة فيما سُبِك فِرَاراً به مِنَ الزَّكاة، أَلَاْ تَرَى أنَّ المنفعةَ قَدْ ذَهَبَتْ، فلِذلكَ لا تجِبُ الزَّكاة»([4])، وهي، وإن كانت تامَّة الدلالة، إلاَّ أنَّها ضعيفة؛ لعدم وثاقة إسماعيل بن مرَّار.
وأمَّا مَنْ ذهب إلى الوجوب، فقد استدلَّ بدليلين:
الأوَّل: إجماع السَّيِّد المرتضى (رحمه الله)، قال في الانتصار: «فإنْ قيل: قد ذكر أبو عليٍّ بن الجنيد أنَّ الزَّكاة لا تلزم الفارَّ منها، ببعض ما ذكرناه، قلنا: الإجماع قد تقدَّم ابن الجنيد وتأخَّر عنه، وإنَّما عوَّل ابن الجنيد على أخبار رويت عن أئمتنا (عليهم السلام) تتضمَّن أنَّه لا زكاة عليه إنْ فرَّ بماله، وبإزاء تلك الأخبار ما هو أظهر منها، وأقوى وأوضح طريقاً».
وفيه: أنَّ الإجماع الدُّخولي كما هو مبنى السَّيِّد المرتضى (رحمه الله) وإنْ كان مشمولاً لأدلَّة حجيَّة خبر الواحد، كما ذكرنا ذلك مفصَّلاً في مبحث الإجماع في علم الأصول، إلاَّ أنَّه لا صغرى له؛ لأنَّ الإجماعات المحكيَّة والموجودة في الخارج هي مبنيَّة على قاعدة اللُّطف، وغيرها مِنَ الطُّرق المذكورة في محلِّها.
والخلاصة: أنَّ هذا الدَّليل الأوَّل ليست تامّاً.
الدَّليل الثَّاني: الرِّوايات التي أشار إليها السَّيِّد المرتضى (رحمه الله):
منها: موثَّقة محمَّد بن مسلم «قال: سَأَلْتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عَنِ الحِلِيِّ، فِيهِ زكَاةٌ؟ قَاْل: لَاْ، إلاَّْ مَاْ فَرَّ بِهِ مِنَ الزَّكاة»([5])، ولا إشكال في سند هذه الموثَّقة، إلاَّ من جهة وقوع ابن الزُّبير القُرَشيّ في طريق الشَّيخ (رحمه الله) إلى ابن فضَّال، وقد عرفت أنَّه مِنَ المعاريف ما يكشف عن وثاقته.
ومنها: موثَّقة معاوية بن عمَّار عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قَالَ: قُلْتُ لَهُ: الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِأَهْلِهِ الْحُلِيَّ إلى أن قال: قُلْتُ: فَإِنَّهُ فَرَّ بِهِ مِنَ الزَّكاة، فَقَالَ إِنْ كَانَ فَرَّ بِهِ مِنَ الزَّكاة فَعَلَيْهِ الزَّكاة، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا فَعَلَهُ لِيَتَجَمَّلَ بِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ»([6]).
وقد يستشكل في سندها من جهتَيْن:
الأُولى: وقوع ابن الزُّبير القُرَشيِّ في إسناد الشَّيخ (رحمه الله) إلى ابن فضَّال، وقد عرفت الجواب عنه.
الثَّانية: من جهة محمَّد بن عبد الله، فإنَّه مشترك بين الثِّقة، وهو محمَّد بن عبد الله بن زرارة، وبين الضَّعيف، وهو محمَّد بن عبد الله بن مهران، وبين المجهول، وهو محمَّد بن عبد الله بن عَمْرو.
ولكنَّ الظَّاهر أنَّ المراد به هنا هو محمَّد بن عبد الله بن زرارة الثِّقة؛ لأنَّ عليَّ بن الحسن بن فضَّال يروي عن محمَّد بن عبد الله بن زرارة كثيراً، بل لعلَّه لا يوجد له رواية عن غيره، ممّن يسمَّى بمحمَّد بن عبد الله، وهذه قرينة توجب الاطمئنان بأنَّ المراد به هنا هو محمَّد بن عبد الله بن زرارة.
قال صاحب الحدائق (رحمه الله) بعد نقله لهذه الرِّواية : «ورواه ابن إدريس في مستطرفات السَّرائر، نقلاً من كتاب معاوية بن عمَّار مثله، فيكون الحديث صحيحاً».
أقول: وجه الصِّحَّة عنده هو أنَّ ابن إدريس (رحمه الله) أخذها من كتاب معاوية بن عمَّار من دون المرور بمحمَّد بن عبد الله.
ولكن يرد عليه: أنَّ ابن إدريس (رحمه الله) لم يذكر طريقه إلى كتاب معاوية بن عمَّار، فتكون الرِّواية في مستطرفات السَّرائر مرسلة، أو بحكم المرسلة.
والخلاصة إلى هنا: أنَّ هذه الرِّواية موثَّقة.
ومنها: موثَّقة إسحاق بن عمار «قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) عَنْ رَجُلٍ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَعَشَرَةُ دَنَانِيرَ، أَعَلَيْهِ زَكَاةٌ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ فَرَّ بِهَا مِنَ الزَّكاة فَعَلَيْهِ الزَّكاة...»([7]).
([1]) الوسائل باب 11 من أبواب زكاة الذَّهب والفضَّة ح1.
([2]) الوسائل باب 8 من أبواب زكاة الذَّهب والفضَّة ح2.
([3]) الوسائل باب 11 من أبواب زكاة الذَّهب والفضَّة ح4.
([4]) الوسائل باب 11 من أبواب زكاة الذَّهب والفضَّة ح3.
([5]) الوسائل باب 11 من أبواب زكاة الذَّهب والفضَّة ح7.
([6]) الوسائل باب 11 من أبواب زكاة الذَّهب والفضَّة ح6.
([7]) الوسائل باب 5 من أبواب زكاة الذَّهب والفضَّة ح3.
|