وذكر جماعة من الأعلام أنَّ بين اعتبار العجز عن أداء الدَّين وبين اعتبار الفقر عموماً من وجه؛ إذِ الفقير هو مَنْ لا يملك مؤونة سنته فعلاً أو قوَّةً، فرُبَّ شخص له كسب أو ضيعة أو مال وافٍ بمؤونته، ولكن عليه ديونٌ أو أُروش جناياتٍ يعجز عن أدائها، ولا يُطلق على مثل هذا الشَّخص في العرف ولا في اصطلاحهم اسم الفقير، ولكن يصدق عليه أنَّه عاجز عن وفاء ما عليه من الدَّين، وقد يكون الأمر بالعكس، كما لو كان متمكِّناً من وفاء دينه بالمال المحتاج إليه في نفقته، وقد يجتمعان، كما لو لم يكن له كَسْب أو ضيعة أو مال وافٍ بمؤونته، وكان عاجزاً أيضاً عن وفاء ما عليه من الدَّين.
ولكنَّ الإنصاف: أنَّه لا خلاف في الواقع؛ لأنَّ المراد من الفقير ليس خصوص مَنْ لا يملك مؤونة السَّنة فعلاً أو قوَّةً، بل مَنْ لا يتمكَّن من قضاء الدَّين هو فقير أيضاً؛ لأنَّ وفاء الدَّين من جملة مؤونة السَّنة، بل قد يكون أهمّ من بقيَّة المُؤن، فإذا لم يكن عنده ما يفي به الدَّين كان فقيراً، وما في كلام جملة من الأعلام من أنَّ الفقير مَنْ لا يملك قوت السَّنة يُراد منه ما يشمل ذلك.
وعليه، فالغنيُّ هو مَنْ كان يملك مؤونة السَّنة فعلاً أو قوَّةً مع قدرته على قضاء الدَّين، فمَنْ عجز عنهما أو عن أحدهما فهو فقير، ومَنْ ملك ما يقابلهما معاً فهو غنيٌّ، ومن المعلوم بالضَّرورة أنَّ الحاجة إلى وفاء الدَّين أشدُّ من الحاجة إلى غيرها من المؤن.
مضافاً إلى صِدْق الفقير على مَنْ يملك قوت سنته، وكان عليه أضعافها ديناً، ولذا يُعطى من الخمس وغيره ممَّا يشترط فيه الفقر، ودعوى أنَّ مثله غنيّ هي كما ترى.
وعليه، فاشتراط الفقر كما عن كثير من الأعلام في محلِّه؛ إذ متى كان عاجزاً عن وفاء الدَّين كُلاًّ أو بعضاً كان فقيراً وإن ملك قوت سنته، وهو المراد من اشتراط عدم التمكُّن من القضاء.
ثمَّ لا يخفى عليك أنَّ مقابلة الغارمين في الآية الشَّريفة للفقراء يمكن أن يكون لبيان كون الغرم مصرفاً من مصاريف الزَّكاة، وإن لم يصدق على الغارم أنَّه فقير كالميِّت ونحوه، فالفرض تِعداد المصارف، ويكفي هذا الاعتبار في المقابلة.
وأمَّا القول: بأنَّ الفقير والغارم قسمان متقابلان، بمعنى أنَّه قد يكون الغارم غنيّاً إذا كان مالكاً لمؤونة سنته، ولم يكن عنده ما يقابل دينه.
ففيه: أنَّه منافٍ لما ذكرناه، حيث قلنا: إنَّه فقير؛ لأنَّ قضاء الدَّين من جملة المؤن، بل هو أهمّها، فكيف يكون غنيّاً إذا لم يكن عنده ما يقابل دينه.
أضف إلى ذلك: أنَّه لو كان الغارم غنيّاً، فكيف يُعطى من الزَّكاة مع ما ورد من أنّها لا تحلُّ للغنيّ، والله العالم بحقائق أحكامه.
الأمر الثاني: المعروف بين الأعلام أنَّه يُشترط في الغارم أن يكون دينه في غير معصية، فلو كان في معصية لم يقضَ عنه.
وفي الجواهر: «لا أجد فيه خلافاً، بل عن الخلاف والمنتهى والتَّذكرة الإجماع على منع الإعطاء من سهم الغارمين في الدَّيْن المنفق في معصية...».
أقول: تسالم الأعلام على هذا الشَّرط، بحيث خرجت المسألة عن الإجماع المصطلح عليه فلا مورد للنِّقاش بأنَّ هذا الإجماع ليس إجماعاً تعبُّديّاً كاشفاً عن قول المعصوم (عليه السلام)، حيث يحتمل فيه المدركيَّة.
وبالجملة، فإنَّ العمدة في المقام هو التَّسالم، والرِّوايات الواردة في هذا المقام، والتي سنذكرها إن شاء الله تعالى .
وأمَّا الاستدلال لذلك: بأنَّ الزَّكاة شُرِّعتْ إرفاقاً بالفقراء، فلا تُناسب المعصية، فليس تامّاً؛ لكونه استحساناً محضاً.
وأمَّا الاستدلال عليه: بأنَّ في وفاء دين المعصية من الزكاة، إغراءً بالقبيح، وهو قبيح.
ففيه أوَّلاً: إنَّما يكون إغراء بالقبيح إذا حصل الأداء قبل التَّوبة لا بعدها.
وعليه، فهو أخصُّ من المدَّعى.
وثانياً: أنَّه أيضاً وجه استحسانيّ لا يعتدّ به.
وأمَّا القول: بأنَّ إطلاق الآية الشَّريفة والرِّوايات الدَّالّة على جواز صَرْف الزَّكاة في دين الغارمين منصرف عن الدَّين المصروف في معصية.
ففيه: أنَّ دعوى الانصراف عهدتها على مدَّعيها، فإنَّها غيرُ ثابتةٍ.
وأمَّا الرِّوايات الواردة في المقام فهي كثيرة:
منها: معتبرة الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه (عليه السلام) «أنّ عليّاً (عليه السلام) كَاْن يَقُول: يُعطَى المُسْتدِينُون مِنَ الصَّدقةِ والزَّكاةِ دَيْنهم كل مَا بَلَغ إذا استدانُوا في غيرِ سرفٍ...»([1])، والرِّواية معتبرة؛ لأنَّ الحسين بن علوان الكلبيّ ممدوحٌ مدحاً معتدّاً به، بل الأقوى أنَّه ثقة.
ووجه الاستدلال بها: أنَّ الصَّرف في الحرام من أوضح مصاديق الإسراف، فيكون قضاء دين المعصية منه.
([1]) الوسائل باب 24 من أبواب المستحقّين للزّكاة ح10.
|