وأمَّا القول الثاني أي: كفاية صلاة واحدة : فقدِ استُدلّ له بعدَّة أدلَّة:
منها: صحيحة زرارة، ومحمّد بن مسلم المرويّة في الفقيه عن أبي جعفر N «أنّه قال: يجزي المتحيِّر أبداً أينما توجّه إذا لم يعلم أين وجه القِبلة»[i]f144.
وقد أشكل على هذه الصّحيحة تارةً من حيث السَّند، وأخرى من جهة المتن.
أمَّا من حيث السَّند: فلِجهالة طريق الصَّدوق R إلى زرارة، ومحمَّد، مجتمعين.
وفيه: أنّ نصّ الصّدوق R على طريقه إلى زرارة، وإلى محمَّد، مع عدم تعرّضه لطريقه إليهما مجتمعين يقتضي أنّ طريقه إليهما مجتمعين هو طريقه إلى كلِّ منهما منفرداً.
نعم، طريقه إلى محمّد بن مسلم ضعيف، كما ذكرنا في أكثر من مناسبة، وأمّا طريقه إلى زرارة فهو صحيح، وهذا كافٍ في المقام.
وأمّا من حيث المتن فمن جهة أنّ في بعض النسخ ذكر التحرّي بدل المتحيِّر.
وفيه: بعد كون النسخة الشايعة هي المتحيِّر، فلا يعتدّ بما في بعض النسخ، لاسيّما مع عدم مناسبة المتن لما في بعض النسخ، إذ التحرّي لا يتناسب مع قوله: «أينما توجّه»، وإنّما يناسبه المتحيِّر.
ومنها: مرسلة ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زرارة «قال: سألتُ أبا جعفر N عن قِبلة المتحيّر، فقال: يصلِّي حيث يشاء»[ii]f145، ولكنّها ضعيفة بالإرسال.
هذا، وقد ذكر جماعة من الأعلام، منهم السَّيد محسن الحكيم R أنّ مرسل ابن أبي عمير كمسنده حجّة عند المشهور، فإنّه لا يرسل إلاّ عن ثقة.
وفيه: ما ذكرناه في علم الرجال من أنّ أصل هذه الدعوى الشَّيخ الطوسي R، حيث ذكر في حقّ ابن أبي عمير، وصفوان بياع السّابري والبزنطي، أنّهم لا يروون، ولا يرسلون إلاّ عن ثقة.
وذكرنا هناك أنّ هذا اجتهاد من الشّيخ R لا يكون حجّةً على الآخرين، وتفصيله في محلّه.
ومنها: صحيحة معاوية بن عمَّار «أنَّه سأل الصَّادق N عن الرّجل يقوم في الصَّلاة، ثمَّ ينظر بعدما فرغ فيرى أنّه قد انحرف عن القِبلة، يميناً أو شمالاً، فقال له: قد مضت صلاته وما بين المشرق والمغرب قِبلة»[iii]f146، وفي نسخة الفقيه التي لم يذكرها صاحب الوسائل R هكذا: «بعد قوله قِبلة» ونزلت هذه الآية في قِبلة المتحيِّر « وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ﴾ ]البقرة: 115[، والشّاهد في هذا المقطع الذي لم يذكره صاحب الوسائل.
ومن هنا ذكر جماعة من الأعلام أنّ هذا المقطع والذي هو محلّ الشاهد من كلام الشّيخ الصَّدوق R نفسه، مع معارضته بما في كثير من النصوص من أنّ الآية نزلت في النوافل.
أقول: قد ذكرنا سابقاً الرِّوايات الدَّالة على أنَّ الآية الشَّريفة نزلت في النوافل أو النوافل في السَّفر، وقلنا: إنَّها ضعيفة السَّند، فراجع.
والإنصاف: أنَّ احتمال أن يكون المقطع الأخير من كلام الشَّيخ الصَّدوق R، وإن كان وارداً، إلاَّ أنَّ الاعتناء بمثل هذا الاحتمال في رفع اليد عن ظاهر الكلام في كونه من تتمَّة الرِّواية مشكل جدّاً، لا سيَّما وأنه لا يوجد في الكلام ما يدلّ على انتهاء الرِّواية عند كلمة قِبلة من قوله: «انتهى»، ونحو ذلك.
وأمَّا ما عن السَّيد ابن طاووس R في أمان الأخطار من الرجوع إلى القرعة.
ففيه أوَّلاً: أنَّ مورد استعمال القرعة إنَّما هو الموضوعات الخارجيَّة التي لا يمكن معرفة حكمها باستعمال شيء من الأصول والقواعد المقررة في الشريعة الإسلامية، التي منها قاعدة الاشتغال عند الشك في المكلَّف به، والبراءة عند الشكِّ في التكليف.
ومن المعلوم أنَّ الشَّارع المقدَّس إنَّما جعل القرعة لكلِّ أمر مشكل، أي: تلبَّس أمره في مرحلة الظَّاهر، بحيث يتحيَّر فيه المكلَّف في مقام عمله، لا مطلق ما كان مشتبهاً في الواقع، وإلاَّ فجلُّ الموضوعات الخارجية والأحكام الشرعية كذلك.
وثانياً: أنَّ عمل القرعة لازمه طرح الأخبار الواردة في المسألة من دون مجوِّز يعتدّ به، والله العالم.
(1) المعروف بين الأعلام أنَّ الأعمى يعوَّل على غيره، وفي الجواهر: «مخبراً كان الغير أو مجتهداً، على المشهور بين الأصحاب في الأعمى، نقلاً وتحصيلاً، بل لا أجد فيه خلافاً صريحاً، إلاَّ من الشَّيخ في الخلاف، فيصلِّي إلى أربع...».
أقول: بناءً على ما ذكرناه سابقاً من أنَّ الظنَّ الحاصل له من قول غيره يصدق عليه التحرِّي فيكون الأعمى حينئذٍ بعد حصول الظنّ له من قول غيره مجتهداً.
نعم، أمارات الاجتهاد بالنسبة إليه منحصرة غالباً في الرِّجوع إلى غيره، ولعلَّ المراد من التقليد في عبارة المصنِّف R هنا، وفي عبارات غيره من الأعلام، هو هذا القسم من الاجتهاد، لا أنَّه عندنا شيء ثالث غير العلم، وما يقوم مقامه من الأمارات الشرعيَّة، وغير الظنّ، يسمَّى التقليد، بل عندنا مرتبتان:
الأُولى: العلم، وما يقوم مقامه.
والثانية: الظنّ، والتي تسمَّى هذه المرتبة بالاجتهاد.
وعليه، فيسقط البحث عن كثير من الأمور التي ذكرها المصنِّف R، وغيره، كاعتبار العدالة في الغير وعدمه، حتّى قال المصنِّف R في الذكرى: «فإنْ تعذَّر العَدْل فالمستور، فإنْ تعذَّر ففي جواز الركون إلى الفاسق مع ظنِّ صدقه تردُّد، من قوله تعالى: «فَتَبَيَّنُواŒ ﴾ ]النساء: 94[، ومن أصالة صحَّة إخبار المسلم.
أمَّا لو لم يجد سوى الكافر ففيه وجهان مُرتَّبَان أي: على الوجهَيْن في الفاسق ثمَّ قال: وأَوْلى بالمنع، لأنَّ قبول قوله ركون إليه، وهو منهي عنه، ويقوى فيهما الجواز، إذ رُجْحان الظنِّ يقوم مقام العلم في العبادات...».
وعن جماعة من الأعلام، منهم الشَّيخ R في المبسوط، والعلاَّمة R في التذكرة، والمحقِّق الثاني R في جامع المقاصد، والشهيد الثاني R: إطلاق المنع من تقليد الكافر والفاسق.
لكن عن المبسوط: جواز تقليد الصبي، مع اشتراطه العدالة.
وفي كشف اللثام: «أنَّ ظاهر المختلف المنع في الإمرأة»،
[i] الوسائل باب 8 من أبواب القِبلة ح2.
[ii] الوسائل باب 8 من أبواب القِبلة ح3.
[iii] الوسائل باب 10 من أبواب القبِبلة ح1.
|