ومنها: الاستقلال حال الاختيار، بمعنى أن لا يستند إلى شيء بحيث لو أزيل السّناد سقط.
ذهب إلى وجوب الاستقلال أغلب الأعلام، بل عن المختلف وغيره دعوى الإجماع عليه.
ولكن بالمقابل حكي الجواز على كراهة عن أبي الصلاح، ووافقه صاحب المدارك والسّبزواري في الكفاية والعلاّمة المجلسي في البحار وصاحب الحدائق والنراقي في مستنده والسّيد الخوئي (رحمهم الله)، وهو مقتضى الإنصاف، كما سيتضح لك إن شاء الله تعالى.
ثمَّ إنه قدِ استُدلّ للمشهور القائل بوجوب الاستقلال بالمعنى المتقدِّم بعدَّة أدلَّة:
منها: الإجماع المدَّعى في المختلف، وغيره.
وفيه: أنَّ الإجماع المنقول بخبر الواحد لا تشمله أدلَّة حجّية خبر الواحد، فهو يصلح للتأييد لا للاستدلال.
ومنها: ما ذكره بعض الأعلام من أنَّ الاستقلال بالمعنى المزبور مأخوذ في مفهوم القيام، فإنَّ القائم بلا إستقلال في صورة القائم، لا قائم حقيقة.
وفيه: أنَّه لا ريب في عدم اعتبار الاستقلال في مفهومه، ضرورة صدق القيام حقيقةً على الحاصل باستناد إلى خشبةٍ وغيرها، بحيث لولاها لسقط.
ودعوى أنَّه في صورة القيام لا قائم حقيقة ممنوعة أشدّ المنع.
ومنها: انصراف أدلَّة القيام إليه.
وفيه: أنَّ دعوى الانصراف ممنوعة، وعهدتها على مدّعيها، وما أسهل دعوى الانصراف، ولكن يصعب جدّاً إقامة الدَّليل عليها.
ومنها: أنَّه المعهود من النَّبي C، فيدخل تحت قوله C (صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي)[i]f610.
وفيه: أنَّ ذلك، وإن كان معهوداً من النَّبي C، إلاَّ أنَّ الفعل مجمل، ولم يُعلم أنَّ ذلك منه C كان على نحو الوجوب، فلا ظهور للفعل، والقدر المتيقّن هو الاستحباب.
وأمَّا إثبات ذلك بالرِّواية ففي غير محلِّه، لأنَّها نبويَّة ضعيفة، إذ لم ترد من طرقنا، وإنَّما هي مروية في كتب العامَّة.
ومنها روايتان:
الأُولى: صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله N (قال: لا تمسك بخمرك وأنت تصلّي، ولا تستند إلى جدار وأنت تصلّي، إلاَّ أن تكون مريضاً)[ii]f611، والخمر بالخاء المعجمة والميم المفتوحتين : ما واراك من شجر، ونحوه.
الثانية: رواية ابن بكير (قال: سألتُ أبا عبد الله N عن الصَّلاةِ قاعداً أو متوكئاً على عصا أو حائط، فقال: لا، ما شأن أبيك وشأن هذا، ما بلغ أبوك هذا بعد)[iii]f612، وهي ضعيفة لاشتراك محمَّد بن الوليد بين الثقة وغيره المجهول، والظنّ بأنَّه ابن الوليد الخزَّاز البجلي الثقة لا يغني من الحقّ شيئاً.
ولكن يعارضهما بعض الرِّوايات:
منها: صحيحة علي بن جعفر (أنَّه سأل أخاه موسى بن جعفر N عن الرّجل هل يصلح له أن يستند إلى حائطِ المسجدِ وهو يصلِّي، أو يضع يده على الحائط وهو قائم من غير مرض، ولا علَّة؟ فقال: لا بأس. وعن الرَّجل يكون في صلاة فريضة فيقوم في الرّكعتين الأوّلتين هل يصلح له أن يتناول جانب المسجد، فينهض يستعين به على القيام من غير ضعف ولا علّة؛ فقال: لا بأس به)[iv]f613.
ومنها: موثَّقة ابن بكير عن أبي عبد الله N (قال: سألتُه عن الرَّجل يصلِّي متوكئاً على عصا أو على حائط، قال: لا بأس بالتوكُّؤ على عصا، والاتّكاء على الحائط)[v]f614.
ومنها: رواية سعيد بن يسار (قال: سألت أبا عبد الله N عن التكاءة في الصَّلاة على الحائط يميناً وشمالاً، فقال: لا بأس)[vi]f615، ولكنّها ضعيفة بجهالة الحسين بن موسى.
هذا، وقد جمع بعض الأعلام بين هذه الرِّوايات وبين الرِّوايتين المتقدِّمتين بحمل هذه الرِّوايات على غير الاعتماد والذي هو الاستناد غير التامّ غير الموجب لخروج قيامه عن الاستقلال والأولتين على الاعتماد، أي ما كان موجباً لخروجه عن الاستقلال.
وفيه: أنَّه لا شاهد لهذا الجمع، بل هو جمع تبرعيّ، خصوصاً وقد حكي عن بعض أهل اللغة اعتبار الاعتماد في مفهوم الاتكاء الوارد في موثَّقة ابن بكير ورواية سعيد بن يسار.
وبالجملة، فلفط الاستناد والاتكاء موجود فيهما معاً، وهما بمعنى واحد.
وعليه، فالتفريق بينهما يكون من غير فارق.
وقد يُقال: إنَّ هذه الرِّوايات الثلاث يحتمل حملها على التقيَّة، كما يُومِئ إليه ما حكي عن فخر المحققين (رحمه الله) من حملها عليها، مؤذناً بأنَّه مذهب العامَّة.
وفيه: أنَّ الحمل على التقية أو احتمال الحمل عليها في غير محلِّه، لأنَّ الحمل على التقيَّة لا يكون إلاَّ إذا لم يمكن الجمع العرفي، بحيث استقرّ التعارض بين الرِّوايات.
وهنا يمكن الجمع العرفي بينها بحمل الرِّوايتين المتقدِّمتين على الكراهة، لأنَّ هذه الرِّوايات نصّ في الجواز، وهذا جمع عرفي، وهذا هو الإنصاف في المقام.
ومن هنا يترجَّح قول أبي الصّلاح R ومن وافقه من الأعلام، وتصبح النتيجة جواز الاعتماد اختياراً على كراهة.
وأمَّا القول بأنَّ هذه الرِّوايات أعرض عنها المشهور.
ففيه ما ذكرناه في أكثر من مناسبة : من أنَّ إعراضهم لا يوجب وهن الرِّواية المعتبرة.
نعم، الذي لا يمكن إنكاره هو احتمال كون هذه الرِّوايات الثلاث جاريةً مجرى الغالب من عدم حصول الاعتماد التامّ المانع عن الاستقلال حال القيام، وكون المقصود بالاستناد إلى الشيء الاستعانة به على قيامه، لا تقوّمه به.
ولكنَّ هذا الاحتمال لا يسمن ولا يغني من جوع، لِعدم كونه حجَّةً، والله العالم؛ هذا كلّه في الاستناد حال القيام.
وأمَّا عند النهوض فيظهر من بعض الأعلام، منهم المصنِّف في الذكرى، والمحقِّق الكركي في جامع المقاصد إلحاقه بالقيام، ولعلَّه لإطلاق قوله N في صحيحة ابن سنان المتقدِّمة «لا تُمسِك بخمرك وأنت تصلّي»، باعتبار أنّ قوله N: «وأنت تصلّي» شامل للنهوض أيضاً.
وفيه: ما لا يخفى، فإنَّ النهوض خارج عن ماهية الصَّلاة، وهو من المقدِّمات لها، كما في النهوض للقيام في الركعة الأولى، فيكفي تحقّقه ولو من غير قصد، فضلاً عمَّا لو أوجده مستعيناً بشيءٍ.
أضف إلى ذلك: أنَّ ذيل صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة صريح في جواز الاستعانة حال النهوض، والله العالم.
[i] كنز العمال ج4 / ص62، ح1196. مسند أحمد ج5: ص53.
[ii] الوسائل باب 10 من أبواب القيام ح2.
[iii] الوسائل باب 1 من أبواب القيام ح20.
[iv] الوسائل باب 10 من أبواب القيام ح1.
[v] الوسائل باب 10 من أبواب القيام ح4.
[vi] الوسائل باب 10 من أبواب القيام ح3.
|