الدرس 7 _ الاصول العملية: البراءة 5
[الدليل الثاني: السنّة: حديث الرفع]
*قال صاحب الكفاية (رحمه الله): وأما السنّة، فبروايات منها: حديث الرفع، حيث عدّ (ما لا يعلمون) من التسعة المرفوعة فيه، فالإلزام المجهول ممّا لا يعلمون، فهو مرفوع فعلاً وإن كان ثابتاً واقعاً، فلا مؤاخذة عليه قطعاً...*
أقول: إنّ المعروف بين الأعلام قديماً وحديثاً، أنّ عمدة الأخبار التي استدلّ بها على البراءة، هو حديث الرفع، فقد روى الشيخ الصدوق في التوحيد والخصال، عن أحمد بن محمد بن يحيى العطار، عن سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن سهل بن عبد الله، عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السّلام) أنّه قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): رفع عن أمّتي تسعة أشياء: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون وما اضطرّوا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة»[1]f15. وفي التوحيد حمّاد بن عيسى بدل سهل بن اليسع بن عبد الله الأشعري. ورواه في الكافي عن الحسين بن محمد، عن محمد بن أحمد النهدي، رفعه، عن أبي عبد الله (عليه السّلام) [2]f16.
أربعة مؤيّدات لحديث الرفع:
لا يخفى، أنّ الحديث بطريق الكافي ضعيف بالرفع. وأمّا بطريق الصدوق، فهو صحيح، إذ لا يوجد من يخدش فيه إلاّ أحمد بن محمد بن يحيى العطار، حيث إنّه لم يوثّق بالخصوص، ولكن الإنصاف: أنّه من المعاريف الكاشف ذلك عن وثاقته، ويؤيّد ذلك عدّة أمور:
أوّلاً: أنّه من شيخوخة الإجازة، باعتبار أنّه من مشايخ الصدوق.
وثانياً: أنّه قد وثّقه جماعة من المتأخرين، منهم العلامة، والشهيد الثاني في الدراية، والشيخ البهائي في المشرق، والمقدّس الأردبيلي وغيرهم. وتوثيق المتأخرين، وإن لم يعتمد عليه، لكون توثيقاتهم مبنيّة على الحدس، إلاّ أنّه يصلح للتأييد.
وثالثاً: قد اعتمد على روايته جماعة من الأصحاب المتقدمين، منهم السيرافي، كما يظهر ممّا حكاه النجاشي عنه في ترجمة الحسين بن سعيد الاهوازي وأنّ له ثلاثين كتاباً. قال: «أخبرني بهذه الكتب غير واحد من أصحابنا من طرق مختلفة كثيرة، فمنها ما كتب إليّ به أبو العباس أحمد بن محمد بن نوح السيرافي (رحمه الله) في جواب كتابي إليه، والذي سألت تعريفه من الطرق إلى كتب الحسين بن سعيد الأهوازي (رضي الله عنه)... إلى أن قال: وأخبرنا أبو علي أحمد بن محمد بن يحيى العطار القمّي قال: حدثنا أبي وعبد الله بن جعفر الحميري وسعد بن عبد الله جميعاً، عن أحمد بن محمد بن عيسى... إلخ». (انتهى كلامه). وهذا ظاهر في اعتماد السيرافي عليه، مع ما ورد في حق السيرافي من التعظيم والتوثيق، قال النجاشي في حقه: «كان ثقة في حديثه، متقناً لما يرويه، فقيها بصيراً بالحديث والرواية، وهو أستاذنا وشيخنا، ومن استفدنا منه، وله كتب كثيرة... إلخ». (انتهى كلامه).
رابعاً: أنّ الأعلام أجمعوا على العمل بحديث الرفع في باب الفقه من العبادات والمعاملات في العقود والإيقاعات، ولم أجد رادّاً له. وفي الحقيقة هذا يوجب أعلى مراتب الاطمئنان بصحته وصدوره عن المعصوم (عليه السّلام). والخلاصة إلى هنا: إنّه لا إشكال في صحة الحديث.
وأمّا دلالته: فهو أنّ الإلزام من الوجوب والحرمة ممّا لا يعلم ومجهول، فهو مرفوع فعلاً، أي ظاهراً، ومعنى رفعه ظاهراً، أي رفع تنجّزه، فالرفع يتعلّق ببعض مراتب الحكم، وهو مرتبة التنجّز، ولا معنى لرفعه واقعاً، لاستلزامه التصويب، واختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها، وهو ينافي الأخبار الكثيرة الدالّة على اشتراك الأحكام الواقعية بين العالم والجاهل. أضف إلى ذلك، أنّ المرفوع لو كان هو الحكم بجميع مراتبه، أي الرفع الواقعي عن موطنه، وهو عالم التشريع، لم يحسن الاحتياط في مورده، إذ الاحتياط إنّما هو لإدراك الواقع على ما هو عليه، فإذا لم يكن في الواقع حكم، فما معنى الاحتياط، مع أنّه لا إشكال في حسن الاحتياط في مورد الشبهة الوجوبية أو التحريمية، بفعل الأولى وترك الثانية.
ويظهر من صاحب الكفاية وأغلب الأعلام: أنّ المرفوع هو الحكم الواقعي ظاهراً، أي مرتبة التنجّز. وحاصل ما أفاده: أنّ الإلزام المجهول سواء كان في الشبهة الحكمية، كحرمة شرب التتن، أو الموضوعية، كحرمة المائع الخارجي المشكوك كونه خمراً ممّا لا يعلمون، فهو مرفوع ظاهراً.
ويظهر من الشيخ الأعظم (رحمه الله): أنّ الرفع ورد من أوّل الأمر على إيجاب الاحتياط، قال (رحمه الله): «وحينئذٍ فنقول معنى رفع أثر التحريم فيما لا يعلمون عدم إيجاب الاحتياط أو التحفظ فيه... إلخ». (انتهى كلامه). وفيه ما لا يخفى: فإنّ المراد من الموصول في قوله (صلّى الله عليه وآله): «رفع ما لا يعلمون» هو نفس الأحكام الواقعية، لأنّها هي المجهولة، فتكون هي المرفوعة ظاهراً، لأنّ الرفع ورد على الموصول. نعم، يلزم من رفع الحكم الواقعي ظاهراً عدم إيجاب الاحتياط، لعدم امكان الجمع بين الترخيص الظاهري ووجوب الاحتياط.