الدرس 50 _ مقدمات علم الاصول 50
الدليل الثاني:
إنّ عنوان الموضوع هو قولهL: «وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ »، وهو عنوان جامد لا ربط له بالمشتق، سواء قلنا بأنّ المشتق موضوع لخصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً، أم للأعمّ، فهذا الدليل الثاني لا يرجع إلى الدليل الأوَّل.
وحاصله: إنَّ «نسائكم» في الآية المباركة عنوان مضاف، والإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة لبقاء عنوانها وبالتالي يكفي في ترتّب الحكم عليها تلبّس الصغيرة بالزوجية قبل تحقّق الرضاع، لتدخل المرضعة الأولى في عنوان التحريم في الآية بعد تحقّقه.
الجواب: أنّا لا نسلِّم بأنَّه يكفي في الإضافة أدنى ملابسة لترتب الحكم عليها، وإنَّما يشترط في الإضافة ما يشترط في المشتق، وهو أن يكون العنوان فعلياً.
وعليه، بعد تحقّق الرضاع الكامل ينتفي المبدأ في الإضافة، فلا تدخل المرضعة الأولى في عنوان التحريم في الآية المباركة.
الدليل الثالث:
إنَّه كما لا يشترط في عنوان الربيبة المحرّمة في الآية المباركة « وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ ﴾( ) أن تكون الأمّ زوجة فعلاً؛ حيث تحرم الربيبة على من كان زوجاً لأمها المدخول بها، وإن كانت فعلاً مطلّقة، كذلك لا يشترط في حرمة المرضعة أن تكون المرتضعة زوجة فعلاً، بل يكفي أن تُرضع من كانت زوجة، وذلك لوحدة السياق بينهما.
وفيه: إنّما استفدنا أنَّ الربيبة تحرم على زوج أمّها مطلقاً؛ أي سواء كان زوجاً فعلاً أم لا، من الروايات وليس من القرآن الكريم، وبالتالي فقياس المرضعة على الربيبة قياس مع الفارق، فضلاً عن كون الدلالة السياقية للآية ضعيفة.
الدليل الرابع:
رواية علي بن مهزيار، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال: «قيل له: إنَّ رجلاً تزوّج بجارية صغيرة فأرضعتها امرأته ثمَّ أرضعتها امرأة له أخرى، فقال ابن شبرمة: حرمت عليه الجارية وامرأتاه، فقال أبو جعفر (عليه السّلام): أخطأ ابن شبرمة، تحرم عليه الجارية وامرأته التي أرضعتها أوّلاً، فأمّا الأخيرة فلم تحرم عليه، كأنَّها أرضعت ابنته»( ).
وفيه: لا إشكال في صريح دلالة الرواية على حرمة المرضعة الأولى، إلا أنّها ضعيفة سنداً؛ لعدم توثيق صالح بن أبي حماد من جهة، ولاحتمال كونها مرسلة من جهة أخرى؛ لقرائن ثلاثة:
أوّلاً: إنَّ إطلاق «أبي جعفر» يقتضي أن يكون المراد منه الإمام الباقر (عليه السّلام)، خصوصاً وأنَّ ابن شبرمة معاصراً له (عليه السّلام)، والحال أنَّ ابن مهزيار لم يكن معاصراً له، وإنَّما عاصر كلاًّ من الإمام الرضا والجواد والهادي S، وقيل العسكري والحجة J، فتكون الرواية مرسلة لسقوط الواسطة بين ابن مهزيار والإمام الباقر (عليه السّلام).
ثانياً: على فرض كون المراد من «أبي جعفر» الإمام الجواد (عليه السّلام)، إلا أنَّ قول ابن مهزيار «قيل» يدلّ على وجود واسطة بينه وبين الإمام، ولكن الإنصاف أنَّه قد يكون القائل حاضراً، إلا أنَّ ابن مهزيار لم يرد التصريح باسمه.
ثالثاً: روى كلّ من الشيخ الكليني والشيخ الطوسي (رحمه الله) في الكافي والتهذيب الرواية هكذا: «علي بن مهزيار رواه عن أبي جعفر (عليه السّلام)»، وهذه قرينة ثالثة على وجود واسطة بينه وبين الإمام (عليه السّلام)، وإلا لو كانت مسندة، فلماذا يقول: «رواه عن أبي جعفر»؟!
وعليه، لا يمكن العمل بهذه الرواية؛ لضعفها واحتمال إرسالها.
وإن قيل: إنَّ ضعف السند مجبور بعمل الأصحاب.
قلنا: مع قطع النظر عن الكبرى؛ حيث إنّنا لا نسلِّم بها، إلا أنَّ الأصحاب لم يعملوا بها، بل أفتوا بحرمة كلتا المرضعتين.
والخلاصة إلى هنا: إنَّ هذه الأدلة الأربعة على حرمة المرضعة الأولى لم يكتب لها التوفيق.
فالإنصاف: أنَّ الدليل الوحيد على حرمتها هو التسالم المورث للقطع.
هذا بالنسبة إلى المرضعة الأولى، أمّا المرضعة الثانية، فقد وقع الخلاف حول حرمتها؛ فالقائلون بأنّ المشتق موضوع للأعم، أدخلوها تحت عنوان «وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ »؛ حيث يصدق على الثانية كما الأولى أنّها أمّ للزوجة، فتحرم من هذا الباب.
ولكن بما أنَّ الإنصاف أنَّ المشتق موضوع لخصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً، وأنَّ إطلاقه على من انقضى عنه مجازٌ، فلا تكون المرضعة الثانية داخلة في عنوان التحريم في الآية المباركة، وعليه لا دليل على حرمة المرضعة الثانية، وتؤيّد رواية ابن مهزيار ذلك.
هذا كلّه إن كان الزوج قد دخل بإحدى المرضعتين، أمّا لو لم يدخل بأيّ منهما؛ فالمشهور بين الأعلام أنَّ المرضعة الأولى حرمت عليه؛ لكونها أمّ زوجته، أمّا الصغيرة التي صارت بعد تحقق الرضاع ربيبته التي لم يدخل بأمها، فينفسخ عقدها؛ لاجتماعها مع الأمّ.
وبالجملة، ما ذكرناه هو المشهور بين الأعلام، بل ظاهر بعض الأعلام دعوى الإجماع عليه.
ولكن الإنصاف: أنَّ صدق أمّ الزوجة على المرضعة مبنيّ على كون المشتق موضوعاً للأعم، وقد عرفت ما فيه.
وعليه، فإن قلنا بوجود التسالم بين الأعلام على حرمة المرضعة الأولى، فينفسخ حينئذٍ عقد الصغيرة، وله تجديد العقد عليها إن أراد.
وأمّا إذا لم يكن التسالم حاصلاً، فحينئذ يفسد نكاح المرضعة الأولى والمرتضعة؛ لأنَّ فساد نكاح إحداهما دون الأخرى ترجيح بلا مرجّح، ثمَّ يمكنه بعد ذلك أن يجدّد العقد على الأم أو ابنتها مخيَّراً بينهما. وممّا ذكرنا يتضح حكم المرضعة الثانية، والله العالم.
ثمَّ إنَّ بعض الأعلام ذهب إلى حرمة المرضعة الأولى مؤبّداً؛ فكما أنَّه إذا تزوج الرجل بنتاً فتحرم عليه أمها مؤبداً بمجرّد العقد، فكذلك في المقام؛ حيث إنَّ المرضعة بعد اكتمال الرضعات أصبحت أمّاً للصغيرة، فتحرم عليه مؤبّداً؛ إذ «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»( )، كما ورد في صحيح بريد العجلي عن الصادق (عليه السّلام) عن رسول الله C.
وفيه: نسلِّم كبروياً أنَّه «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»، ولكن الفرض لا يشكل صغرى لهذه الكبرى؛ إذ إنَّ المفهوم من الآية المباركة « وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ ﴾ أنَّ الأمّ التي تحرم على الزوج هي التي تكون أمّا للزوجة حين العقد، والحال أنَّه حين العقد على الزوجة الصغيرة لم تكن المرضعة الأولى بعدُ أمّاً للزوجة الصغيرة، وإنّما طرأ ذلك بعد حصول الرضعات.
هذا ما يمكن قوله في المقام، وتفصيل المسألة بتمام فروعها موكول إلى محلّه في مسألة الرضاعة.
والخلاصة: إنّ المراد من المشتق أصولياً ما يصحّ حمله على الذات، سواء كان مشتقاً نحوياً أم جامداً.