سلسلة محاضرات حول الدعاء -6- الإقبال في الدعاء
الروايات الواردة في المقام:
1- رواية ابن القداح عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال: قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لا يقبل الله عز وجل دعاء قلب لاه وكان علي ( عليه السلام ) يقول إذا دعا أحدكم للميت فلا يدعو له وقلبه لاه عنه ولكن ليجتهد له في الدعاء ([1]). هذه الرواية ضعيفة بسهل بن زياد وعد وثاقة جعفر بن محمد الأشعري.
2- رواية سليمان بن عمرو قال: سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول: إن الله عز وجل لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه فإذا دعوت فاقبل بقلبك ثم استيقن بالإجابة ([2]). هذه الرواية ضعيفة بسليمان بن عمرو.
3- حسنة هشام ابن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما استسقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسقى الناس حتى قالوا إنه الغرق، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله بيده وردها: اللهم حوالينا ولا علينا، قال فتفرق السحاب، فقالوا يا رسول الله استسقيت لنا فلم نُسقَ ثم استسقيت لنا فسقينا، قال إني دعوت وليس لي في ذلك نية ثم دعوت ولي في ذلك نية ([3]). أقول سنتعرض لشرح هذا الحديث في سياق الكلام.
إذن الدعاء يكون عن اقبال.
والاقبال بشكل عام هو التوجه إلى الشيء، مثلاً لو أن الأستاذ يشرح مطلب معيّن فعلى الطالب أن يتوّجه بقلبه، أما لو كان الأستاذ يشرح الدرس والطالب عقله وقلبه مشغولان في شيء آخر غير الدرس فهذا الطالب لا يكون متوجهاً إلى الدرس.
وهكذا أيضاً في الصلاة فترى الإنسان يصلي لكن ذهنه مشغول في أمر من أمور الدنيا كالتجارة أو غيرها، وهكذا أيضا في الدعاء فترى الإنسان يقرأ -على سبيل المثال- دعاء كميل وهو مستعجل كي لا تفوته السهرة الفلانية، ليس المهم أن نقرأ الدعاء فقط لأننا تعودنا على قراءته، بل المهم ان نقرأه مع التوجه والالتفات الى المعاني، مع الالتفات إلى الله سبحانه وتعالى، يتوجه بقلبه اي لا يكون لاهٍ عن شيء اخر، لا يكون ساهٍ لا يكون غافل وهذا معنى الالتفات.
وهذا غالباً موجود عند الناس وبالأخص إذا كان العمل طويلا، صحيح أنه يقرأ القرآن -مثلا- ولكنه يفكر في المعيشة يفكر في الزوجة يفكر في جاره يعني قلبه ليس مع القرآن.
فالإقبال عمل قلبي، والقلب يدعو الى التوجه والجوارح تابعة للقلب، وهذا ليس بالأمر السهل فهو يحتاج الى جهد من الإنسان.
فاذا أردت أن تعرف نفسك أنك متوجه بالصلاة -مثلا- فانظر إلى نفسك فإن كنت تعبث بلحيتك أو ما شابه ذلك أثناء الصلاة فاعلم أن قلبك ساهٍ، لأنّ الجوارح تابعة للقلب فإذا خشع القلب خشعت الجوارح، ففي رواية الجعفري في كتاب الجعفريات: عن علي عليه السلام، إن رسول الله صلى الله عليه وآله أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: أما أنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه ([4]). اذن فعل الجوارح تابع للقلب، يعبث في الصلاة لأن قلبه ساهٍ لاهٍ، لا أقول دائماً لأنه قد يكون الانسان محتاج إلى حكّ رأسه -مثلا- لكن هو متوجه، لكن غالباً العبث في اليد يكشف ان قلبه ساهٍ لاهٍ لكن ليس دائما وبناء عليه فإنّ قوله (صلّى الله عليه وآله): لو خشع قلبه لخشعت جوارحه يعني ان حركة الجوارح تابعة للقلب، لذا تلاحظ كل انسان متوجه الى اي مطلب ترى جوارحه ساكنة.
وبناء عليه الدعاء الذي يستجاب يكون دعاء عن اقبال بقلبه، لا أنه يدعو هو ساه غافل كما يحصل في كثير من الامور يعني مثلا في ليالي القدر -أسأل الله سبحانه وتعالى ان يوفق الجميع إلى احياء ليالي القدر في العام المقبل وكل عام- بعض الناس المؤمنين همه أن يقرأ الدعاء الفلاني والدعاء الفلاني وينتهي منهم في الليلة، وهذا غلط لأنه قد يكون هو غير متوجه قد يكون متكاسل، يشعر بالنعاس من جهة، يحتاج مثلا الى شرب التتن (الدخان) بعضهم معتاد على شرب الدخان صحيح هو معك في الدعاء لكن عقله في مكان اخر، او معك لكنه يشعر بالنعاس، صحيح أننا قلنا سابقاً أن الدعاء بنفسه مستحب وللداعي أجر حتى لو كان فكره وقلبه مشغول بالنوم أو الأكل أو الشرب يريد التدخين أو ما شابه لكن قبول الدعاء غير معلوم، فالدعاء مستحب حتى لو لم يقبل هو بنفسه عبادة سواء كان مقبولاً او غير مقبول ولكن القبول له شرائط منها توجه القلب، أما أنه يريد ان يطلب الجنة وهو نائم، الذي يطلبه يحتاج الى توجه قوي، فالإقبال شرط في الدعاء في قبول الدعاء.
يُقبل بقلبه وهذا ليس فقط في الدعاء حتى في الصلاة، ففي صحيحة زرارة عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال: إذا أقمت إلى الصلاة فعليك بالإقبال على صلاتك فإنما لك منها ما أقبلت عليه ولا تعبث فيها بيديك ولا برأسك ولا بلحيتك ولا تحدث نفسك ولا تتثأب ولا تتمط ولا تكفر فإنما يفعل ذلك المجوس ولا تلثم ولا تحتفز وتفرج كما يتفرج البعير ولا تقع على قدميك ولا تفترش ذراعيك ولا تفرقع أصابعك فان ذلك كله نقصان من الصلاة ولا تقم إلى الصلاة متكاسلا ولا متناعسا ولا متثاقلا فإنها من خلال النفاق فان الله سبحانه نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى يعني سكر النوم وقال للمنافقين وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤن الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ([5]).
وفي صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: إن العبد ليرفع له من صلاته نصفها أو ثلثها أو ربعها أو خمسها، فما يرفع له إلا ما أقبل عليه منها بقلبه، وإنما أمرنا بالنافلة ليتم لهم بها ما نقصوا من الفريضة ([6]). وهذا حسب التوجه، ان كان عنده اقبال في نصف الصلاة تقبل منه نصف الصلاة، وإن كان عنده اقبال في ربع الصلاة تقبل منه ربع الصلاة، وإن كان عنده إقبال في ثلث الصلاة تقبل منه ثلث الصلاة، طبعا القبول شيء غير صحة العمل، قد يكون العمل صحيح إن أتى به على شرائطه لكن هل هو مقبول عند الله أم لا، لذا الإمام سلام الله عليه قال: وإنما أمرنا بالنافلة ليتم لهم بها ما نقصوا من الفريضة.
إذن الاقبال شرط في قبول الدعاء، أما أنه يدعو وقلبه ساهٍ لاه، طبعا اللهو هو الذي يمنع الانسان عن الامر المهم، فاللهو هو الذي يصدك عم يعنيك؛ بخلاف اللعب مثل لعب الاطفال الذي ليس له مقصد صحيح، لذا كان اللهو قبيح بشكل عام، نحن قلنا أن اللهو ليس محرم دائما الا اذا منعك عن الواجب كالصلاة، لذا كان اللهو باطلا، لذا في بعض الروايات، مثلا روي عن رسول الله صلى الله عليه واله انه قال: كل لهو المؤمن باطل إلا في ثلاث: في تأديبه الفرس، ورميه عن قوسه، وملاعبة امرأته فإنهن حق الحديث ([7]). هذه الرواية ضعيفة.
فشاهد الحال، الاقبال في الدعاء شيء مطلوب للإنسان، يعني يلتفت لنفسه فاذا رأى نفسه غير مقبل يؤجل الدعاء، لا أنه هو امر روتيني لازم يأتي به.
نرجع الى الأحاديث في الحديث الأول: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يقبل الله عز وجل دعاء قلب لاه وكان عليّ (عليه السلام) يقول إذا دعا أحدكم للميت فلا يدعو له وقلبه لاه عنه ولكن ليجتهد له في الدعاء.
لماذا خصص (عليه السّلام) الميت: النكتة في ذلك أنّ الميت أحوج من غيره للدعاء، عادة الانسان عندما يذهب للتعزية ويقول الفاتحة يقولها لكي يذهب، يقرأها لأنه جرت العادة على قراءتها، فهو لا يتوجه في قراءتها للميت، وهنا عليك ان تدعو له بإقبال لان الميت يحتاج للدعاء، والانسان الحي يدعو فيما بعد لنفسه، اذن عندما تذهب وتقرا الفاتحة الامام يقول عليك ان تجتهد وانت تدعو له لكي ينتفع الميت من الدعاء.
اما في حسنة هشام الحكم السابقة: لما استسقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسقى الناس حتى قالوا إنه الغرق، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله بيده وردها: اللهم حوالينا ولا علينا، قال فتفرق السحاب، فقالوا يا رسول الله استسقيت لنا فلم نُسقَ ثم استسقيت لنا فسقينا، قال إني دعوت وليس لي في ذلك نية ثم دعوت ولي في ذلك نية.
أقول: أنه ممكن ان يكون لم يستسقً اول مرة لأنه (صلّى الله عليه وآله) يعلم ان الله سبحانه وتعالى -قلنا سابقا استجابة الدعاء مرجعها الى الله فهو عز وجل يرى المصلحة ؛ وقد تكون المصلحة يؤخر الاجابة، انا اريدها الان وقد يكون لها ضرر وأنا لا ألتفت إلى الضرر، والله علام الغيوب؛ فلا مصلحة في تقديم الاجابة الان- الرسول قد يكون قد علم أنه في المرة الاولى ان المصلحة مؤخرة لكنه لم يرد ان يكسر في خاطرهم فحضر وصلى، لذا قال لم يكن عندي نية باعتبار ان المصلحة ليست الان.
إذن الاقبال مطلوب في الصلاة او في الدعاء أو في اي مطلب.
عندنا بعض الروايات الواردة في المقام مثلا روى محمد بن علي بن الحسين قال، قال الصادق عليه السلام: لا تجتمع الرغبة والرهبة في قلب أحد إلا وجبت له الجنة فإذا صليت فأقبل بقلبك على الله عز وجل فإنه ليس من عبد مؤمن يقبل بقلبه على الله عز وجل في صلاته ودعائه إلا أقبل الله عليه بقلوب المؤمنين إليه وأيده مع مودتهم إياه بالجنة ([8]).
فالإنسان عليه ان يروض نفسه، وترويض النفس ليس بالأمر بل هي من أصعب الامور؛ فعليه ان يروض نفسه على الاعمال الصالحة والاخلاص، وترويض النفس يحتاج الى جهد.
فالإقبال مهم في كل شيء، يعني احيانا نقول فلان ذكي وفلان غير ذكي، على الانسان ان يجرب ليفهم ويعلم، والخطيب البارع يجعل من الناس ملتفتين إليه في حديثه.
ومن هنا نعرف أن التوجه في القلب شيء مهم في كلّ شيء، لذا نرى القرآن الكريم يصف الكافرين: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ....
والحمد لله رب العالمين.
[1] وسائل الشيعة: باب 16 من أبواب الدعاء، ح3.
[2] وسائل الشيعة: باب 16 من أبواب الدعاء، ح2.
[3] وسائل الشيعة: باب 15 من أبواب الدعاء، ح1.
[4] مستدرك الوسائل: باب 11 من أبواب قواطع الصلاة وما يجوز فيها، ح3.
[5] وسائل الشيعة: باب 1 من أبواب أفعال الصلاة، ح5.
[6] وسائل الشيعة: باب 17 من أبواب أعداد الفرائض، ح3.
[7] وسائل الشيعة: باب 17 من أحكام الدواب في السفر وغيره، ح3.
[8] وسائل الشيعة: باب 3 من أفعال الصلاة، ح3.