سلسلة محاضرات حول الدعاء -8- البكاء في الدعاء 1
البكاء من خشية الله:
أما البكاء من خشية الله، -ولو كان في البيت أو ماشياً في الطريق- فالباكي من خشية الله خوفاً من ذنوبه في أي مكان كان وبأي حال كان فهو من أعظم الطاعات وأحسن الأعمال، ففي صحيحة معاوية بن عمار قال: «سمعت أبا عبد الله (عليه السّلام) يقول: كان في وصية النبي (صلّى الله عليه وآله) لعلي (عليه السّلام) أن قال: يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها عني ثم قال: اللهم أعنه، أما الأولى: فالصدق ولا تخرجن من فِيكَ كذبة أبدا. أقول: بالمناسبة أصعب شيء حفظ اللسان من الكذب والغيبة والنميمة.
والثانية: والورع ولا تجترئ على خيانة أبدا.
والثالثة: الخوف من الله عز ذكره كأنك تراه. أقول: لأن الخوف على أقسام، فمن الممكن أن يخاف الإنسان ولكن إذا كان ما يخاف منه أمامه يكون خوفه شديد، فمثلاً قد يخاف الإنسان من الأسد ولكن إذا كان الأسد أمامه يكون خوفه شديد.
والرابعة: كثرة البكاء من خشية الله يبنى لك بكل دمعة ألف بيت في الجنة. والخامسة: بَذْلك مالك ودمك دون دينك.
والسادسة: الاخذ بسنتي في صلاتي وصومي وصدقتي أما الصلاة فالخمسون ركعة وأما الصيام فثلاثة أيام في الشهر: الخميس في أوله والأربعاء في وسطه والخميس في آخره، وأما الصدقة فجهدك حتى تقول قد أسرفت ولم تسرف.
وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الزوال وعليك بصلاة الزوال، وعليك بصلاة الزوال، وعليك بتلاوة القرآن على كل حال وعليك برفع يديك في صلاتك وتقليبهما، وعليك بالسواك عند كل وضوء وعليك بمحاسن الأخلاق فاركبها ومساوي الأخلاق فاجتنبها فإن لم تفعل فلا تلومن إلا نفسك» ([1]).
البكاء من خشية الله في الصلاة:
ففي موثقة منصور بن يونس بزرج أنه: «سأل الصادق (عليه السلام) عن الرجل يتباكى في الصلاة المفروضة حتى يبكي فقال قرة عين والله وقال: إذا كان ذلك فاذكرني عنده» ([2]). والتباكي له معنيين: الأول يحمل -يجهد- نفسه على البكاء حتى يصل إلى البكاء، الثاني يتشبه بالباكي، والأنسب في الرواية هو المعنى الأول.
فالإمام الصادق (عليه السّلام) يقول فاذكرني عنده، وهذا معناه أن دعاؤه مستجاب.
إذن أحسن شيء البكاء من خشية الله في الصلاة.
البكاء على الميت:
أقول ([3]): قد استفاضت الأخبار في جواز البكاء على الميّت، بل من يُلاحظ الأخبار الواردة من طرق العامّة ومن طرقنا يجدها متواترةً معنىً ويظهر من بعضها استحباب البكاء. كلّ ذلك مضافاً للتسالم بين الأعلام في جميع الأعصار والأمصار بحيث أصبح ذلك من البديهيّات عند الناس، فضلاً عن الأعلام، ومن جملة الأخبار الواردة في المقام: رواية ابن القداح عن أبي عبد الله عليه السلام (في حديث) قال: «لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وآله هملت عين رسول الله صلى الله عليه وآله بالدموع ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول: ما يسخط الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون» ([4]). هذه الرواية ضعيفة بسهل ابن زياد واشتراك جعفر بن محمد الواقع في السند بين الثقة وغيره. وعليه فإن جواز البكاء على الميت لا كلام فيه.
في استحباب البكاء على الميت أو كراهته: هناك روايتان في استحباب البكاء على الميت:
الرواية الأولى: مرسلة الشيخ الصدوق (رحمه الله) عن الإمام الصادق (عليه السّلام): «من خاف على نفسه من وجد بمصيبة فليفض من دموعه فإنه يسكن عنه» ([5]). هذه الرواية استفاد منها الأعلام استحباب البكاء (فليفض من دموعه) ولكن هذه الرواية ضعيفة بالإرسال.
الرواية الثانية: خبر محمد بن منصور الصيقل، عن أبيه، قال: «شكوت إلى أبي عبد الله (عليه السّلام) وجد أوجدته على ابن لي هلك حتى خفت على عقلي، فقال: إذا أصابك من هذا شيء فأفض من دموعك فإنه يسكن عنك» ([6]). ودلالته على الاستحباب واضحة، ولكنّه ضعيف بوجود عدّةٍ من المجاهل في السند منهم: محمّد بن منصور الصيقل، وأبوه، وإبراهيم بن خالد القطّان.
إذن استحباب البكاء على الميت بحيث يُؤجر الباكي على ذلك لم يثبت إلا للحسين (عليه السّلام) والأئمة (عليهم السّلام) بل في بعض الروايات أنه يكره البكاء على الميت إلا على الإمام الحسين (عليه السّلام)، ففي حسنة معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله عليه السلام (في حديث) قال: «كل الجزع والبكاء مكروه ما سوى الجزع والبكاء لقتل الحسين عليه السلام» ([7]). هذه الرواية حسنة ([8]). فإنّ أبا محمّد الأنصاري الواقع في السند، وإن قال في حقّه نصر بن الصبّاح: إنّه مجهول لا يُعرف، إلاّ أنّ الكليني (رحمه الله) في باب: أنّ المؤمن لا يكره على قبض روحه، قال عنه: كان خيّراً. وهذا مدح له معتدٌّ به، ولا تعارض بين القولين، لأنّ قول نصر: إنّه مجهول بمنزلة قوله: لا أعرف عنه شيئاً، وقول الكليني: كان خيّراً، بمنزلة قوله: أعرفه؛ فلا معارضة حينئذٍ. بالإضافة إلى أن نصر بن الصباح غير موثق فلا يؤخذ بتوثيقه ولا تضعيفه.
إذن البكاء على الحسين (عليه السّلام) فيه أجرٌ عظيم، أما على غير الإمام الحسين (عليه السّلام) فهو مكروه.
بعضهم قال: نحمل الكراهة الواردة في الحسنة على عدم الثواب، لأنّ الكراهة بمعناها الاصطلاحي (الحزازية) بعيد.
بعضهم قال: نحمل الكراهة الواردة في الحسنة على الكراهة بمعناها الاصطلاحي (الحزازة).
على العموم إنّ البكاء على الميت قطعاً جائز ولكنه مكروه بمقتضى الرواية إلا إذا حملنا الكراهة على عدم الثواب.
إذن أصل البكاء جائزٌ قطعاً، والبكاء من خشية الله أعظم شيء في أي مكان كان وأفضل شيء إذا كان في الصلاة، وأما البكاء على الميت فهو جائزٌ قطعاً ولكنه مكروه إما بمعنى عدم الثواب وإما بمعنى الكراهة الاصطلاحية أي فيه حزازة ومنقصة إلا البكاء على الإمام الحسين والأئمة (عليهم السّلام).
البكاء على أمر من أمور الدنيا:
أما البكاء على أمرٍ دنيوي كخسارة مالية أو خسارة جائزة أو خسارة منصب معيّن أو ما شابه هذه الأمور، فلا دليل على كراهة البكاء على مثل هذه الأمور ولا على استحبابه، فهو مباح جائز.
البكاء على الميت في الصلاة:
أما البكاء على الميت في الصلاة، فقد ذكرنا في مبحث الصلاة ([9]) أنّ البكاء على الميت مبطلٌ للصلاة على الأحوط وجوباً، لأنّ الرواية الدالة على البكاء على الميت في الصلاة ضعيفة السند، وهي رواية أبي حنيفة -وهو غير أبو حنيفة المعروف- قال: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن البكاء في الصلاة أيقطع الصلاة؟ فقال إن بكى لذكر جنة أو نار فذلك هو أفضل الأعمال في الصلاة وإن كان ذكر ميتا له فصلاته فاسدة» ([10]). هذه الرواية ضعيفة بأبي حنيفة فإنه مشترك بين نعمان بن ثابت الضعيف وبين سعيد بن بيان الهمداني الثقة ولا مميز بينهما، وعدم وثاقة النعمان بن عبد السلام، وعدم وثاقة القاسم بن محمد، وأما سليمان بن داوود فالظاهر أنه المنقري أبو أيوب الشاذكوني الثقة.
أما البكاء في الدعاء فيأتي في المحاضرة الآتية إن شاء الله تعالى والحمد لله رب العالمين.
[1]الكافي: الجزء 8، وصية النبي لأمير المؤمنين، صفحة 79، ح33.
[2]وسائل الشيعة: باب 5 من أبواب قواطع الصلاة، ح1.
[3]راجع كتابنا مسالك النفوس في مدارك الدروس: كتاب الطهارة، المجلد الرابع، صفحة 508.
[4]وسائل الشيعة: باب 87 من أبواب الدفن وما يناسبه، ح3.
[5]وسائل الشيعة: باب 87 من أبواب الدفن وما يناسبه، ح5.
[6]وسائل الشيعة: باب 87 من أبواب الدفن وما يناسبه، ح2.
[7]وسائل الشيعة: باب 87 من أبواب الدفن وما يناسبه، ح9.
[8] شيخنا الأستاذ الشيخ التبريزي (رحمه الله) كان يعبّر عن الرواية بأنها صحيحة، ولكن الإنصاف أنها حسنة.
[9]راجع كتابنا مسالك النفوس في مدارك الدروس: كتاب الصلاة، المجلد الخامس، صفحة 141.
[10] وسائل الشيعة: باب 5 من أبواب قواطع الصلاة، ح4.