الدرس 1178 _كتاب الخمس 58
الأمر الثَّاني: في كيفيّة القِسْمة.
المشهور بين الأعلام شهرةً عظيمةً، بل عن مجمع البيان وكنز العرفان وظاهر الغنية: الإجماع على أنّ ثلاثة من تلك الأقسام السِّتّة للنَّبيّ (صلّى الله عليه وآله)في حياته (ص)، وهي سهم اﷲ تعالى، وسهم رسوله (ص)، وسهم ذي القربى.
والمراد بذي القربى، وإن كان هو الإمام (عليه السلام) كما سيأتي إن شاء اﷲ تعالى بيانه بشكل مُفصَّل ، إلاَّ أنَّ الرَّسول (صلّى الله عليه وآله)هو الإمام في حياته، فيأخذ الثَّلاثة حينئذٍ: سهم له (صلّى الله عليه وآله)بالأصالة، وسهم اﷲ تعالى؛ لأنَّ ما كان له فهو لوليّه، وسهم ذي القربى؛ باعتبار أنَّه (صلّى الله عليه وآله)الإمام حال حياته، ولا إمام غيره، ولا يُوجد خلاف في أنَّ سهم اﷲ (عز وجل) هو ملك للنَّبيّ (صلّى الله عليه وآله)حقيقةً يتصرَّف به كيف يشاء كغيره من أملاكه.
وتدلُّ عليه مضافاً إلى التَّسالم بين الأعلام : الرِّوايات الكثيرة الَّتي تقدَّم بعضها.
ومنها: صحيحة البزنطيّ عن الرِّضا (عليه السلام) (قَاْل: سُئل عن قول اﷲ (عز وجل) : (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى)؟ فقِيل له: فما كان ﷲ، فلِمَنْ هو؟ فقال: لرسول اﷲ (ص)، وما كان لرسول اﷲ (صلّى الله عليه وآله)فهو للإِمام ...)([1]).
وأمَّا رواية زكريا بن مالك الجُعفيّ المتقدِّمة الدَّالّة على أنَّ خُمُس اﷲ للرسول يضعه في سبيل اﷲ، فهي ضعيفة سنداً، كما تقدَّم.
ومع قطع النَّظر عن ضعف السَّند، فلا بُدّ من تأويلها أو ردّ علمها إلى أهلها (عليهم السلام)، لاسيّما مع ملاحظة اشتمالها على غير ذلك ممَّا هو مخالف للمعلوم من المذهب الشَّريف، وقد تقدَّم التَّنبيه على ذلك، فراجع.
ثمَّ إنَّ المراد بذي القربى في الكتاب المجيد، والسُّنَّة النَّبويّة الشَّريفة هو الإمام (عليه السلام) كما أشرنا سابقاً وفي الجواهر: (بلا خلاف معتدّ به أجده فيه بيننا، بل الظَّاهر الإجماع عليه، بل هو من معقد إجماع الانتصار والغنية، كما أنَّه في التذَّكرة نسبته إلى علمائنا، وفي المنتهى عن الشَّيخ الإجماع عليه...)([2]).
أقول: تدلّ عليه مضافاً إلى التَّسالم بين الأعلام، حيث لم يُنسب الخلاف إلاَّ إلى ابن الجنيد (رحمه اﷲ)، ومخالفته لا تضرّ بالتسالم جملةٌ من الرِّوايات، وقد تقدَّم بعضها، كالمراسيل الثلاثة أي مرسلة ابن بكير، ومرسلة أحمد بن محمَّد المرفوعة أيضاً، ومرسلة حمَّاد ولكنَّها ضعيفة، كما عرفت، إلاَّ أنَّها مؤيِّدةٌ للمطلب.
واستدلّ المحقِّق (رحمه اﷲ) في المعتبر على اختصاص سهم ذي القربى بالإمام (عليه السلام): بأنَّ قوله تعالى: (وَلِذِي الْقُرْبَى): (هو لفظٌ
مفردٌ، فلا يتناول أكثر من الواحد، فينصرف إلى الإمام (عليه السلام)؛ لأنَّ القول بأنَّ المراد واحد، مع أنَّه غير الإمام (عليه السلام)، منفيّ بالإجماع.
ثمَّ قال : لا يُقال: أراد الجنس، كما قال: وابن السَّبيل؛ لأنَّا نقول: تنزيل اللَّفظ الموضوع للواحد على الجنس مجاز، وحقيقته إرادة الواحد، فلا يُعدل عن الحقيقة. وليس كذلك قوله: وابن السَّبيل؛ لأنَّ إرادة الواحد هنا إخلال بمعنى اللَّفظ؛ إذ ليس هناك واحد متعيّن يمكن حمل اللَّفظ عليه)([3]).
وأشكل عليه صاحب المدارك (رحمه اﷲ): (بأنَّ لفظ (ذي القربى) صالح للجنس وغيره، بل المتبادر منه في هذا المقام الجنس، كما في قوله تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) ]الإسراء: 26] (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى) ]النحل: 90]، وغير ذلك من الآيات الكثيرة، فيجب الحمل عليه إلى أن يثبت المقتضي للعدول عنه، ومع ذلك فإرادة الواحد من هذا اللَّفظ هنا تتوقَّف على قيام الحُجّة بذلك، أمَّا بدونه فيكون ممتنعاً، كما في ابن السَّبيل)([4]).
ويرد عليه: أنَّ إرادة الجنس من ابن السَّبيل، وإن كان مجازاً، إلاَّ أنَّه يتعيَّن ذلك للقرينة، وهي أنَّه لا يُوجد واحد متعيّن يمكن حمل اللَّفظ عليه، وهذا بخلاف ما نحن فيه، فإنَّه لا توجد قرينة تُعيّن إرادة الجنس،
بل قد عرفت أنَّه يُوجد واحد متعيّن يمكن حمل اللَّفظ عليه، وهو الإمام (عليه السلام).
أضف إلى ذلك: أنَّ عطف اليتامى والمساكين وابن السَّبيل في الآية الشَّريفة على ذي القربى، مع أنَّ المراد من هذه الأمور الثَّلاثة أقرباؤه، أيضاً يُعيّن إرادة الإمام (عليه السلام) من قوله: (وَلِذِي الْقُرْبَى)؛ إذ لا يُناسبه إرادة مطلق أقربائه من ذي القربى الَّذي جُعل له سهم مخصوص، وإلاَّ لم يتميّز أحد السَّهمَيْن عن الآخر.
نعم، قد عرفت أنَّه حُكي عن ابن الجنيد (رحمه اﷲ) أنَّه لم يجعل سهم ذي القربى لخصوص الإمام (عليه السلام)، بل لمطلق أقارب النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله)من بني هاشم.
وقد يُستدلّ له ببعض الرِّوايات:
منها: رواية زكريا بن مالك الجعفيّ المتقدِّمة عن أبي عبد اﷲ (عليه السلام)، حيث ورد فيها: (أمَّا خُمُس اﷲ (عز وجل) فلِلرسول يضعه في سبيل اﷲ، وأمّا خُمُس الرَّسول فلأقاربه، وخُمُس ذوي القربى فهم أقرباؤه)([5]).
وقد عرفت أنَّها ضعيفةٌ سنداً، مع مخالفتها في بعض ما ورد فيها للمقطوع به في المذهب.
ومنها: ما في تفسير العياشيّ عن محمَّد بن مسلم عن
أحدهما (عليهما السلام) (قال: سألته عن قول اﷲ (عز وجل) : (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى)، قَاْل: هم قرابة رسول اﷲ (ص)، فسألته: منهم اليتامى والمساكين وابن السَّبيل؟ قَاْل: نعم)([6])، وهي ضعيفة بالإرسال، وكذا غيرها.
وبالجملة، فإنَّ هذه الرِّوايات مع قطع النَّظر عن ضعف أكثرها سنداً مخالفة لما هو مقطوع به في المذهب، فيتعيَّن صرفها إلى ما لا يُنافي الرِّوايات المتقدِّمة، أو تُحمل على التَّقيّة، أو يُردّ علمها إلى أهلها (عليهم السلام)، واﷲ العالم.
ثمَّ إنَّه قد تبيَّن ممَّا تقَّدم أنَّ ما كان للنَّبيّ (صلّى الله عليه وآله)من سهمه وسهم اﷲ تعالى ينتقل بعده للإمام (عليه السلام) القائم مقامه، فيكون حينئذٍ نصف الخُمُس كملاً في هذه الأعصار لصاحب الأمر (عج): سهمان بالوراثة، وسهم بالأصالة مقسوم له من اﷲ تعالى، كما هو مضمون الرِّوايات السابقة، والَّتي منها: صحيحة البزنطيّ المتقدِّمة عن الرِّضا (عليه السلام) الواردة في تفسير الآية الشَّريفة (فقِيل له: فما كان ﷲ، فلِمَنْ هو؟ فقال: لرسول اﷲ (ص)، وما كان لرسول اﷲ (صلّى الله عليه وآله)فهو للإمام...)([7]).
وعليه، فما عن الشَّافعيّ من انتقال سهم رسول اﷲ (صلّى الله عليه وآله)بعد موته (صلّى الله عليه وآله)إلى المصالح، كبناء القناطر وعمارة المساجد وأهل العلم
والقضاء، وأشباه ذلك باطلٌ قطعاً، كبطلان ما عن أبي حنيفة من سقوط سهم رسول اﷲ (صلّى الله عليه وآله)رأساً، وأشدّ منه بطلاناً ما عن أبي حنيفة من سقوط سهم ذي القربى بموت النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله).
([1]) الوسائل باب 1 من أبواب قسمة الخمس ح6.
([2]) الجواهر: ج16، ص86.
([3]) المعتبر: ج2، ص629.
([4]) المدارك: ج5، ص398.
([5]) الوسائل باب 1 من أبواب قسمة الخمس ح1.
([6]) الوسائل باب 1 من أبواب قسمة الخمس ح13.
([7]) الوسائل باب 1 من أبواب قسمة الخمس ح1.