الدرس 186 _زكاة الفِطرة 19
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: والواجب صاع(1)
(1) المعروف بين الأعلام أنَّ الفِطْرة من جميع الأقوات التي سنذكرها صاع. وفي المدارك: «هذا قول علمائنا، وأكثر العامَّة...».
وفي الحدائق: «الظَّاهر أنَّه لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) في أنَّ القدر الواجب في زكاة الفِطْرة صاع، وهو قول أكثر العامَّة أيضاً...».
وفي الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه في غير اللَّبن بلِ الإجماع بقسمَيْه عليه، والنُّصوص يمكن دعوى تواترها فيه...»، وفي المستمسك: «أنهاها بعضهم على سبعة عشر حديثاً، سبعة منها صحاح للجمَّال والحذَّاء والقدَّاح، وسعد بن سعد الأشعريّ، والحلبيّ، ومعاوية بن وهب، ومحمَّد بن عيسى، وعشرة غير صحاح: للهمدانيّ، والمروزي، والشّحَّام، وسلمة، وابن المغيرة، وجعفر بن معروف، وياسر، وإبراهيم بن أبي يحيى، وابن سنان، ومنصور...».
أقول: رواية ياسر القمِّيّ صحيحة، فلا ينبغي جعلها من غير الصِّحاح؛ لأنَّ ياسر القمِّيّ خادم الرِّضا (عليه السلام) من مشايخ عليّ بن إبراهيم المباشرين، فتكون الصِّحاح حينئذٍ ثمانية.
نعم، لا ينبغي عدُّ رواية منصور؛ لأنَّها مشتملةٌ على نصف صاع من حنطة.
ومهما يكن، فالرِّوايات متواترة، لكن لا بالمعنى المصطلح عليه، بل بمعنى أنَّ كثرتها توجب القطع بالصُّدور، وهو كذلك، فقول السّيِّد أبو القاسم الخوئيّ (رحمه الله): «أنَّ دعوى التَّواتر لا أساس لها، فإنَّ الوارد في المقام روايات معدودة، وأكثرها مخدوشة سنداً، وإن كان فيها الصِحاح أيضاً» ليس تامّاً؛ لما عرفت.
وعليه، فلسنا بحاجة لذِكْر هذه الرِّوايات بأجمعها.
نعم، لا بأس بذكر بعضها تبركاً:
منها: صحيحة صفوان الجمَّال «قَاْل: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفِطْرة، فقال: علىٰ (عن) الصَّغير والكبير والحُرّ والعبد، عن كلِّ إنسانٍ منهم صاع من حنطة، أو صاع من تمر، أو صاع من زبيب»([1]).
ومنها: صحيحة سعد بن سعد الأشعريّ عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) «قَاْل: سألتُه عن الفِطْرة، كَمْ تدفع عن كلِّ رأسٍ من الحِنطة والشَّعير والتَّمر والزَّبيب؟ قَاْل: صاع بصاع النَّبيّ (ص)([2])، وكذا غيرهما.
ثمَّ إنَّه في جملة من الرِّوايات: الإجتزاء بنصف صاع من حنطة أو شعير أو نصف صاع من بُرّ:
منها: صحيحة الفضلاء المتقدِّمة عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) «أنَّهما قالا: على الرَّجل أن يُعطي عن كلِّ مَنْ يعول من حُرّ وعبد وصغير وكبير، يُعطي يوم الفطر قبل الصَّلاة فهو أفضل، وهو في سِعة أن يعطيَها من أوَّل يوم يدخل من شهر رمضان إلى آخره، فإن أعطى تمراً فصاع لكلِّ رأسٍ، وإن لم يعطِ (تمراً) فنصف صاع لكلِّ رأسٍ من حنطة أو شعير، والحنطة والشَّعير سواء...»([3]).
ومنها: صحيحة الحلبيّ عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قَاْل: صدقة الفِطْرة على كلِّ رأسٍ من أهلك إلى أن قَاْل: عن كلِّ إنسانٍ نصف صاع من حنطة أو شعير، أو صاع من تمر أو زبيب لفقراء المسلمين»([4]).
ومنها: صحيحته الثَّانية «قَاْل: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن صدقة الفِطْرة، فقال: على كلِّ مَنْ يعول الرَّجل، على الحُرّ والعبد، والصَّغير والكبير، صاع من تمر، أو نصف صاع من بُرّ، والصَّاع أربعة أمداد»([5]).
وأجاب الشَّيخ (رحمه الله) في كتابي الأخبار عن هذه الرِّوايات، وما يجري مجراها: بالحمل على التَّقية، قال في الاستبصار: «ووجه التَّقية في ذلك أنَّ السُّنة كانت جاريةً في إخراج الفِطْرة بصاع عن كلِّ شيءٍ، فلمَّا كان زمن عثمان وبعده في أيام معاوية جعل نصف صاع من حنطة بإزاء صاع من تمر، وتابعهم النَّاس على ذلك، فخرجت هذه الأخبار وفاقاً لهم على جهة التَّقية».
أقول: الحَمْل على التَّقية إنَّما يتمّ في الحنطة، وأمَّا في الشَّعير فهم موافقون لنا في أنَّ الفِطْرة فيه صاع، وليست نصف صاع.
وممَّا يُشير إلى الحَمْل على التَّقية في الحنطة جملة من الرِّوايات:
منها: صحيحة معاوية بن وهب «قَاْل: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في الفِطْرة: جرت السُّنّة بصاع من تمر، أو صاع من زبيب، أو صاع من شعير، فلمَّا كان في زمن عثمان، وكثرت الحنطة قوّمه النَّاس، فقال: نصف صاع من بُرّ بصاع من شعير»([6]).
ومنها: صحيحة الحذَّاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) «أنّه ذَكَر صدقةَ الفِطْرة أنَّها على كلِّ صغيرٍ وكبيرٍ من حُرٍّ أو عبدٍ، ذكرٍ أو اُنثى، صاعٌ من تمرٍ، أو صاعٌ من زبيبٍ، أو صاعٌ من شعيرٍ، أو صاعٌ من ذرةٍ، قَاْل: فلمَّا كان زمن معاوية، وخصب النَّاس، عَدَل النَّاس عن ذلك إلى نصف صاعٍ من حنطةٍ»([7]).
ومنها: رواية سلمة أبي حفص عن أبي عبد الله عن أبيه (عليهما السلام) «قَاْل: صدقة الفِطْرة على كلِّ صغيرٍ وكبيرٍ، حرٍّ أو عبدٍ، عن كلِّ مَنْ تعول يعني: من تنفق عليه صاعٌ من تمرٍ، أو صاعٌ من شعيرٍ، أو صاعٌ من زبيبٍ، فلمَّا كان زمن عثمان حوَّله مُدَّيْن من قمح»([8])، ولكنَّها ضعيفة بجهالة سلمة أبي حفص.
ومنها: ما رواه المحقِّق (رحمه الله) في المعتبر، وكذا العلاَّمة (رحمه الله) في المنتهى «قَاْل: رُوي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه سُئِل عن الفِطْرة، فقال: صاعٌ من طعامٍ، فقيل: أو نصف صاع؟ فقال: « بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ ﴾ ]الحجرات: 11[»([9])، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال.
والخلاصة: أنَّه لا إشكال في الحمل على التَّقيّة بالنِّسبة لما ورد من كون زكاة الفِطْرة نصف صاع من حنطة. وأمَّا ما ورد من كونها نصف صاع من شعير فلا يمكن حمله على التَّقيّة؛ لأنَّهم موافقون لنا فيه.
والإنصاف: أنَّه يردّ علمه إلى أهله (عليهم السلام)، وهم أدرى به، وهذا لا يضرّ بالتّمسُّك بباقي فقرات الرِّواية، فنردّ علم هذا المقطع إلى أهله (عليهم السلام)، وليس جميع الرِّواية، إذ لا مانع من التَّفكيك في الحُجيّة، كما ذكرنا في أكثر من مناسبة. هذا كلُّه في غير اللَّبن.
([1]) الوسائل باب 5 من أبواب زكاة الفطرة ح1.
([2]) الوسائل باب 6 من أبواب زكاة الفطرة ح1.
([3]) الوسائل، الصدر: باب 12 من أبواب زكاة الفطرة ح4. والذيل باب 6 من أبواب زكاة الفطرة ح14.
([4]) الوسائل باب 6 من أبواب زكاة الفطرة ح11.
([5]) الوسائل باب 6 من أبواب زكاة الفطرة ح12.
([6]) الوسائل باب 6 من أبواب زكاة الفطرة ح8.
([7]) الوسائل باب 6 من أبواب زكاة الفطرة ح10.
([8]) الوسائل باب 6 من أبواب زكاة الفطرة ح9.
([9]) الوسائل باب 6 من أبواب زكاة الفطرة ح21.